في نهاية ليلة مطيرة، سار الرجل ذو البشرة السمراء متخفيا بمحاذاة المنازل، للمرة الخامسة على الأقل خلال 24 ساعة، مرتدياً معطفه الكاكي ومعتمراً قبعته التي تغطي جزءاً من جبهته التي حفر عليها الزمن خطوطه.
تنقل الرجل عبر خمس عربات ومشى تحت الامطار الغزيرة وأصوات الرعد وأضواء البرق التي تحيط به من كل جانب كي يصل الى مكان يستطيع فيه ان يقضي عدة ساعات حتى الصباح.
كان معتادا على قضاء أيام قلائل في 70 مكانا مختلفا، وخلال عامين فقط قضى الليل في اكثر من 200 مكان، فكان لا ينام في مكان واحد لأكثر من ليلة او ليلتين متتابعتين، ولا يستمر اكثر من نصف ساعة في مكان واحد.
أما عائلته فلا يجب أن تسكن في منزل واحد لأكثر من شهرين ويجب على أولاده الخمسة (أربعة أولاد وبنت واحدة) ان يستخدموا اسماء مزيفة عند تقديم انفسهم لأي اصحاب جدد.
مع تحيات زايد ابو سليمان
كان هذا هو الوضع العادي لجمال ابوسمهدانة مؤسس لجان المقاومة الشعبية الذي تعرض لخمس عمليات اغتيال قبل أن تقضي العملية السادسة على حياته لتصعد الروح الطاهرة إلى بارئها، ولما لا وقد كان هو المطلوب رقم 2 لجهاز الامن الداخلي الاسرائيلي “الشين بيت” بعد محمد الضيف قائد كتائب الشهيد عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة حماس.
رجل كهذا لم يكن مجرد ثائر فلسطيني خرج من بين النار التي تكوي ذلك الشعب الصامد، لكنه كان أبعد من ذلك، فقد تلقى ابو سمهدانة تدريبا لمدة ثلاثة اعوام في المانيا الشرقية في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، تدرب خلالها على استخدام وتصنيع المتفجرات، وتدرب ايضا خلال هذه الفترة مع مقاتلين من كوبا ونيكاراجوا. كما امضى فترة حرب الخليج الثانية عام 1991 في العراق قبل أن يعود الى وطنه عام 1994 مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وقد تم اعتقاله لمدة 18 شهراً من قبل الفلسطينيين بعد قيادته لسلسلة من الاحتجاجات بسبب ارتفاع اسعار المواد الغذائية.
وبالرغم من الحميمية التي كان يتعامل بها مع رجاله حتى أنهم كانوا يلقبونه «الريس» فإنه كان متخصصا في تصنيع القنابل بمقادير ومكونات متنوعة.
هذا الرجل الذي كان مطاردا من إسرائيل بالقدر نفسه الذي كان مطاردا فيه من السلطة الفلسطينية (قبل تولي حماس) بعد رفض تعليمات متكررة بحل منظمته العسكرية حتى جاءت حماس واعتلت السلطة فوضعته في مكان يليق به وعينته مراقبا عاما لفرقة خاصة تهدف إلى حفظ الأمن في الشارع الفلسطيني برتبة عقيد ليكون أول قائد فصيل فلسطيني عسكري يتولى منصبا أمنيا في الحكومة.
وقد كان الرجل القائد الميداني للجان المقاومة الشعبية حتى قُطع جزء من ذراعه اليمنى حينما كان يطلق قنبلة من أحد الصواريخ على إحدى المستوطنات الصهيونية. وقد قام بعلاجه فريق من جراحي جمعية “أطباء بلا حدود” الفرنسية، حيث أخذوا عظمة من رجله اليسرى ووضعوها أسفل كوع يده في عملية استغرقت 10 ساعات لانقاذ الذراع المصابة.
وينحدر ابو سمهدانة من عائلة ذات باع طويل في محاربة الصهاينة فقد انضم شقيقه صقر للثورة الفلسطينية مع قوات التحرير الشعبي ليصبح مطلوباً للجيش الإسرائيلي وانتقل صقر بعدها إلى لبنان وانخرط في صفوف الثورة وظل يقاتل في صفوفها حتى قتل عام عام 1975، كما قتل شقيه طارق في انتفاضة عام 1987 حيث كان أحد النشطاء الفاعلين في حركة فتح.. كما تعرض أبوه وأمه واخوته الباقون الى السجن اثناء الانتفاضة الاولى التي بدأت عام 1987.
ويشك الصهاينة ان اخا اكبر له يدعى سامي يترأس جناح حركة شهداء الاقصى في غزة
وقد ولد جمال عطايا زايد أبو سمهدانة عام 1963 في معسكر المغازي للاجئين وسط قطاع غزة حيث قضى طفولته في المخيم الفقير مع عائلته التي اشتهرت في النضال الفلسطيني، وانتقلت عائلته بعد ذلك الى مخيم رفح للاجئين الفلسطينيين جنوب قطاع غزة.
وأنهى أبو عطايا دراسته الثانوية في رفح والتحق بعدها بصفوف حركة فتح حيث كلف من قبل الحركة التي انطلقت عام 1965 بإعداد مجموعات عسكرية.
وشارك في الهبة الشعبية عام 1981 التي انطلقت في قطاع غزة كما بدأ الجيش الإسرائيلي في مطاردة أبو سمهدانة عام 1982 قبل أن يتمكن من المغادرة الى مصر ومن هناك الى دمشق ثم المغرب ثم تونس حيث مكث سنتين.
وسافر أبو سمهدانة بعد ذلك الى ألمانيا حيث التحق بالكلية العسكرية هناك وتخرج منها ضابطا عام 1989 قبل أن ينتقل بعدها الى الجزائر ثم الى بغداد حيث شهد في العاصمة العراقية الغزو الامريكي وقوات التحالف لها عام 1991.
وعقب انتهاء حرب الخليج رجع أبو عطايا إلى الجزائر وكانت المحطة الأخيرة في تنقلاته الخارجية قبل أن يعود إلى قطاع غزة في صفوف القوات الفلسطينية العائدة ضمن اتفاق أوسلو عام 1993 على الرغم من معارضته للاتفاق الذي وقعه عرفات.
وفور عودته إلى قطاع غزة عمل جمال في الأجهزة الأمنية في السلطة الفلسطينية كما نجح في انتخابات حركة فتح في رفح وفاز بعضوية إقليم رفح.
وقد عرف عن جمال في عهد السلطة الفلسطينة معارضته لسياسة السلطة الفلسطينية وخاصة التطبيع مع إسرائيل والتنسيق الأمني بين الأجهزة الامنية الفلسطينية والإسرائيلية واعتقال قادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
وفي تحول خطير في علاقته مع السلطة قامت الأجهزة الامنية الفلسطينية باعتقاله عام 1997 على يد جهاز الأمن الوقائي لمدة 19 شهر بسبب مساعدته حركة الجهاد الإسلامي في نشاطات عسكرية وعمليات نفذتها ضد أهداف إسرائيلية.
وقامت حركة فتح بعد ذلك بطرده من صفوفها بناءً على توصية من جهاز الأمن الوقائي عقب مشاركته في مظاهرة مناهضة لفساد السلطة والغلاء الفاحش الناتج عن السمسرة والاستغلال السيىء للمنصب من قبل بعض رموز السلطة.
ولعل هذه الأجواء التي مر بها أبو سمهدانة دفعته لاستثمار انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 لممارسة موهبته العسكرية حيث شكل مع بداية الانتفاضة مع عدد من القيادات العسكرية ومعظمها من المحسوبين على الأجهزة الأمنية المنتمين لحركة فتح تشكيلا عسكريا حمل اسم لجان المقاومة الشعبية.
وجمعت لجان المقاومة الشعبية والتي شكلت جناحا عسكريا أطلقت عليه ألوية الناصر صلاح الدين عناصر نشطاء من فصائل مختلفة جلهم كان من فتح وبعضهم من حماس والجهاد الإسلامي ممن يؤمنون بالعمل المقاوم حلا للقضية الفلسطينية بعيدا عن الحلول السياسية.
ومثل العامان الأولان للانتفاضة الفلسطينية ذروة عمل لجان المقاومة الشعبية عبر أربع عمليات متتالية لتفجير الدبابة الإسرائيلية الشهيرة ” الميركافا” حيث قُتل خلالها عدد كبير من الجنود الإسرائيليين الأمر الذي وضع أبو سمهدانة وقادة اللجان في دائرة الاستهداف الإسرائيلي المتواصل.
وعُرف عن أبو سمهدانة الملتحي التزامه الديني القوي وقربه الشديد من قادة الحركات الإسلامية حيث كان أعز أصدقائه محمد الشيخ خليل قائد سرايا القدس الذراع العسكري للجهاد الاسلامي الذي اغتالته إسرائيل بعد أسابيع قليلة من انسحاب إسرائيل من قطاع غزة.
من أقواله:
«طموحي الاكبر هو ان امثل تهديدا للاسرائيليين حتى في اللحظة التي يقتلونني فيها»
“اذا كانت زوجتي خائفة من ان ترسل اطفالنا الى المدرسة، فإن زوجاتهم يجب ان يكون لديهم القدر نفسه من الخوف، واذا كانت اختي خائفة من ان تذهب الى السوق، فإن نسائهم يجب ان يكون لديهن الخوف نفسه.. فقط عندما يعانون الشعور نفسه بالخوف وبعدم الآمان سوف يطلب الشعب الاسرائيلي من حكومته ان يسمحوا لنا بقيام دولتنا”.
«بامكانك ان تأخذ احتياطاتك، ولكن في النهاية، ليس هناك سوى الله وقائد الطائرة إف ـ 15 فقط هما اللذان يعرفان من هو هدف هذا اليوم ».
«كان على أولادي ان يكبروا قبل الاوان ويكونوا مسئولين وعالمين بالمخاطر التي تحيط بهم، ولكن على المدى البعيد، سوف يؤتي هذا الاسلوب ثماره، فهم يعلمون ان الحرية لا تمنح مجانا ولكن تأتي مقابل ثمن غال».
===============
مصادر الموضوع:
مقال مترجم عن جريدة «صنداي تايمز» البريطانية
موقع لجان المقاومة الشعبية على الإنترنت
عدد من المقالات على الإنترنت