جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
الحاج فرحان سلام الشاعر الذي سلّم روحه إلى باريها !
تقرير: فادي سلايمة إذا ما ذكرنا اليوم اسم الشاعر فرحان سلام أمام معاصريه، سيذكرون بالطبع فلسطين الحبيبة وتلك الأيام الجميلة التي أحياها شاعرنا هذا وزملاؤه الشعراء، وسيذكرون أيضاً أعراس الجليل التي كانت على مستوى رفيع حيث تقام مباريات سباق الخيل الأصيل وفي الليل تقام التمثيليات وحلقات الدبكة على أنغام المجوز والأرغول والشبابة مع الأغاني الشعبية المختلفة مثل: «على دلعونا»، و«جفرا ويا هربع»، و«عتابا وميجنا»، و«يا زريف الطول»، و«يا ريمة افرعت»… وسيذكرون أيضاً حلقات السحجة التي كان يساهم فيها هؤلاء الشعراء حيث يتبارى اثنان منهم في حلقة السحجة ويكون الرجال قد اصطفوا جنباً إلى جنب يصفقون (يسحجون) حسب نغمة الغناء ولازمته الشعرية التي يرددونها مع السحجة مثل: «يا حلالي، يا مالي»، «دحيوبة دحيوب»، «مفتي العرب، مفتي العرب» أو يرددون آخر الشطرة من البيت الشعري أو الزجلي. ويطرح الشاعران موضوعاً يتحاوران فيه، ويحتد الحوار أحياناً حتى ليخال للمرء أنهما سوف يتقاتلان ويستلان السيوف على بعضهما، ولكن ما هي إلا إثارةً وتشويقاً ينتهي بالمصالحة (طبعا، لأنه لم يكن هناك خصام أصلاً) وبالعناق والهتاف من قبل الجمهور والتصفيق والفرح والزغاريد. وقد اشتهر عدد من الشعراء الشعبيين في الجليل منهم: الحاج فرحان سلام من قرية المجيدل قضاء الناصرة، والأخوين توفيق الريناوي ومحمد الريناوي من قرية الرينة قضاء الناصرة، والأخوين مصطفى البدوي «أبو سعيد» ومحمد البدوي «أبو شكيب» من قرية حطين قضاء طبريا وقد استشهد الأخير في معركة لوبيا عام 1948. وقد اشتهر عدد من عازفي الأرغول في الجليل منهم: أبو تنها من قرية عيلوط قضاء الناصرة، وطحيمر من عرب المواسي قضاء طبريا.. ولد الشاعر الحاج فرحان سلام في قرية المجيدل قضاء الناصرة، تلقى تعليمه في مدرسة الراهبات في القرية، في العام 1932 عمل في سلك البوليس الفلسطيني، وعند اندلاع الثورة الفلسطينية عام 1936، كان أحد المشاركين فيها ليس بشعره فحسب بل بجسده أيضا، لذا أطلق عليه لقب «ثائر وشاعر». في عام 1940-1944 نفي إلى الأردن بسبب قصائده الشعبية التي مجدت الثوار والثورة وبسبب علاقاته مع بعض الشخصيات الوطنية في ذلك الحين مثل رشيد الحاج إبراهيم رئيس الجمعية الإسلامية المسيحية في حيفا، والحاج أمين الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا وغيرهم، بعدها عاد إلى البلاد وبقي فيها حتى عام 1948. كان الحاج فرحان سلام - كما وصفه المؤرخ جميل عرفات - طويل القامة ممتلئاً (جهاماً) يلبس عادة الديماية والعباءة وعلى رأسه الحطة والعقال. ومن صفاته أنه كان يركب الخيل عند الحداء، وهي صفة من صفات الحدائين في منطقة الجليل في ذلك الحين. كان الشاعر الشعبي الحاج فرحان سلام في حد ذاته زجالاً ومغنياً يقول كلماته ضمن أوزان بحور الشعر التقليدية، وتتحدث كلماته عن جملة من التجارب الحياتية لجماهيرنا الشعبية الفلسطينية وما يتخللها من مآثر وبطولات وعادات وتقاليد متوارثة عبر الأجيال، ومثال ذلك ما قاله الحاج فرحان سلام في إحدى أعراس قريتي الشجرة الزاهرة قضاء طبريا قبل عام 1948 (بشهادة جدتي المرحومة الحاجة أم أحمد فرجة نايف السرساوي من مواليد قرية كفر سبت قضاء طبريا في العهد العثماني حوالي عام 1910): حاسب نفسك وانهيها .. ع كيفها لا تعطيها عزة نفسك بين الناس .. تسوى الدنيا وما فيها ولا توكل لقمة منان .. دوم بتتتعاير بيها ووطي نفسك للطفران .. رب العرش يعليها إن قلت الرزقة عليك .. للعالم لا تشكيها ولا تتأمل بفلان بيك .. نفسه عاجز يكفيها مهما صار لا تمد إيديك .. أبدا لغير باريها خلي خيمة الستر عليك .. هاللي منعها بيعطيها ولا تشرب مية من كاس .. حتى تعرف شو فيها ولا تشتغل بالوسواس .. إجلي النية وإصفيها ولا ترضى حقك ينداس .. لو روحك بتضحيها ولا تحكي ع عيوب الناس .. شوف عيوبك داريها شوف الحكمة واجمعها .. لا تسأل عن خباييها خذها حالا واجمعها .. حتى تعرف جانيها وازرعها بموضعها .. صعبة تعود تلاقيها خلي نفسك محجوبة .. بعد الموت بتحييها دوم العفة مطلوبة .. مسكين يا اللي خاليها إن همت أمة محجوبة .. بعد الموت بتحييها إن كنت بخيل ونمام .. حياتك كبها وارميها وإن كنت صاحب زمام .. أعمالك بتلاقيها إحذر من اولاد الحرام .. صحبتهم مالك فيها لأنها مثل الدخان .. نسمة هوا بتهفيها إن كنت غدار وحسود .. حياتك كبها وارميها حتى لا تخلف وتعود .. ترجع اختها تلبيها منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 أصبح للشعر الشعبي الغنائي دور رئيس في تعبئة الجماهير وتحريضها لمناهضة العدوان بمختلف تسمياته، وتأجيج شعلة النضال الوطني والقومي في النفوس. ففي معركة طبريا الكبرى التي شارك فيها الشاعر محمد يوسف البدوي «أبو شكيب الحطيني»، وكان ممن احتلوا مقر حاكم طبريا وأحرقوا جميع مستنداته في 3/10/1938، قال الشاعر الحاج فرحان سلام: أبو إبراهيم رتب عسكره بتنظيم حط المياجن عبد الغفار راعيها كسبوا بارود وبيها يحرقوا العدوان نار الغزيرة تشتعل بي أهاليها راحت عساكر وبيها تيتمت أطفال والله وأكبر على ما حضر فيها جمّع فصايل أبو أحمد وإعمل المكمان واللي دخلها أبو أحمد لها منصان خلع أبواب اتفتحوا أهاليها الليلة اللي دخلها أبو عاطف لها عنوان غزْ البيارق وتهلل لباريها طلع عظهر الميذنة وقال الله أكبر على ما حضر فيها صاح أبو إبراهيم وقال انسحاب يا إخوان الله ربي ورب العرش يحميها في الأربعينات يظهر من حديث أهل القرية أن معظمهم كانوا من مؤيدي الحزب العربي الفلسطيني ومن مؤيدي المفتي بشكل خاص. وكان اسم الحاج أمين يتردد في الأزمة في بعض أغاني السحجات «سيف الدين الحاج أمين.. فليسقط المعارضين». وقد قال الشاعر الحاج فرحان سلام (بشهادة عمتي المرحومة زهية محمود المصطفى سلايمة من مواليد قرية الشجرة الزاهرة قضاء طبريا 1930): ويزمن قال للحاج أمين .. خذلك أربع ملايين المفتي جاوب لو بتموت .. ما بتتملك فلسطين فكرك تبني فيها بيوت .. إحنا فيها موجودين ويزمن قاله يا حجي .. من جنابك مترجي أرجو تمضي هلحجة .. منكون منك ممنونين قاله الحجي يا دكتور .. وبمالك لا تكن مغرور عندي رجال زي النمور .. بتحمي منك فلسطين سيبك من وعد بلفور .. وعيشوا معنا ذميين قاله يا حجي عندك رجال .. وعنا مال واحتيال لمحافظين والعمال .. صاروا معنا متحدين قاله الحجي يا موعود .. تقسيم الوطن مردود ملوك العرب هالأسود .. بها التقسيم مش رضيانين ويذكر الكاتب محمد بصول ابن الشاعر الشعبي توفيق الريناوي «أبو الأمين» في كتابه «فارس الشعر - أبو الأمين» حادثة طريفة مفادها: أن شعراء فلسطين اشتركوا في عرس أقيم في مدينة الناصرة أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان من بين المدعوين للحفل الحاكم العسكري البريطاني. ورغم حالة الحرب بين ألمانيا ودول الحلفاء والتصاق اسم المفتي الحاج أمين الحسيني بالألمان نكاية بالإنجليز الذين لم يتورعوا عن استعمال كل صنوف القمع ضد الفلسطينيين، إلا أن أصحاب العرس أصروا على دعوة الشعراء الشعبيين وطلبوا منهم أن يمتدحوا الحاج أمين الحسيني فوقف الحاج فرحان أولاً وقال: أيا مفتي العروبة وين حليت .. مشاكل قاسية للعرب حليت ولما في قصر برلين حليت .. فيك بتفتخر كل العرب ثم قال الحطيني: أيا مفتي العروبة إشتد متنا .. بوجودك نعتلي من فوق متناَ وأيا مفتي العروبة إن كان ُمتنا .. نحن برواحنا نفدي التراب ثم قال أبو السعود: أيا مفتي العرب وين هديت .. بروح العالية للغرب هديت ولما عَ قصر برلين هديت .. تحيا وتدوم يا مفتي العرب ثم قال الريناوي: أيا مفتي العروبة إن كنت عليت .. حما في صدر إدوارد عليت مقامات العرب بالكون عليت .. نموت وفليعيش مفتي العرب (إدوارد الثامن: ملك بريطانيا عام 1936) مع بداية نشوب الأحداث الأليمة في فلسطين ظهر جلياً تخاذل ملوك وحكام العرب، فقال الحاج فرحان سلام أمام مجلس الجامعة العربية عندما كان عبد الرحمن عزام باشا أمينًا عاماً لها: إنتبه يا شعب وفيق .. وتذكر أيام الضيق صديق ما ينفع في الضيق .. عدو مع العدواني تنبه يا شعبي الغفول .. عَ اوطانك انت مسؤول ودم جدك فيها مجبول .. ومنها أسرى العدناني تنبه يا شعب وفزّ .. وتذكر أيام العزّ الطفل اللي يرضع عَ البزّ .. ما بقبل شريك ثاني العصفور بحافظ على عشه .. من خوفه حد يوخذ قشه استيقظوا لا تنغشوا .. أموات ناقصكم اكفانِ *** يا خائنين الوطن يا أيها الفجار .. هل غاب عنكم ماذا في فلسطينا ؟! توبوا إلى الله توبة الفجار .. قولا وفعلا وصدقا في براهينا هلا نسيتم ضحايا تاركين صغار .. بصيحوا الوحى من ذا يربينا يا ديرتي مالك علينا لوم .. لا تعتبي لومك على الجيران يا ديرتي مالك علينا لوم .. نحن من أجلك ما عرفنا النوم يا ديرتي مالك علينا لوم .. لا تعتبي لومك على من خان للعرب والإسلام صيحي اليوم .. يظهر لك الصاحي من السكران يظهر لك من ينجدك بالحال .. ويضحي بالأرواح والأموال ما أفضل الأقوال على الأعمال .. والقول من غير العقل نقصان والقول من غير العقل مذموم .. كثر الأسف شو بنفع المظلوم لو بالكلام يصح هالمسقوم .. كان الجمل ما يلزمه قطران كان الألم ما يلزمه دكتور .. يبرز لهذا العالم المعمور والبنسلين اللي غدا مشهور .. لولاه شو بتألم الإنسان من هيك بدها فلسطين علاج .. من بنسلين العرب هالوهاج والمسجد الأقصى غدا محتاج .. أسرع دوا من سائر الأركان أسرع دوا كون المرض معضال .. لا يقبل التأخير والإمهال والمهد يشكي والدمع سيال .. من عين مريم يا بني غسان يهدر الدمع من مريم العذراء .. من صوت عيسى اهتزت الأركان خوفا على مهده من الأعداء .. والغرب فيه تهودوا الصلبان حدثتني الحاجة أم مصطفى نجمة عوض إسماعيل دحلة (طرعان 1932) بنبرةٍ حزينة حول ذكرياتها الأليمة عن نكبة النزوح عن فلسطين عام 1948 في مقابلة خاصة أجريتها معها عام 2013: « ... أثناء خروج أهل الشجرة من بنت جبيل إلى بيروت عام 1948 سمعتُ شخصاً اسمه علي البكر يغني بصوت حزين «فلسطين لا تحزني يا زهرة البلدان » (وهي قصيدة من تأليف الشاعر الحاج فرحان سلام من قرية المجيدل قضاء الناصرة)، وظل علي البكر من أهالي الشجرة طوال الطريق يغني والنساء من بعده تبكي» ! حتى وصلوا إلى بيروت ليستقروا في مخيم الداعوق الواقع بين حي صبرا ومخيم شاتيلا، الذي لا تتجاوز مساحته مساحة ملعب كرة قدم ! وفي مقابلة خاصة أخرى أجريتها عام 2014 مع العم أبو وليد عثمان علي محمد درويش (سلايمة) (الشجرة 1924) حصلتُ منه على بعض أبيات القصيدة المذكورة: نادي باسم الإله الواحد الديان .. من ذكر هذا الاسم فروا الشياطينا رب كريم يفرج كَرِبةِ الانسان .. عُسراً ويسراً مهما شاء يعطينا فلسطين لا تحزني يا زهرة البلدان .. تفديك أرض العرب بكل الملايينا بمهد عيسى وإسراء النبي العدنان .. من ظلمك يا غرب فجرت براكينا يا غرب بعد التجارب آن للثملان .. أن يصحى ويفهم الخمرة من الكينا يا آل ثروكهوب يا نائب السلطان .. أعرفت أوجاعنا وماذا يشفينا ؟! خبّر ملوكك والوزراء والأعيان .. بلغوا لبلفور وعداً جاء يفنينا إن كان بلفور يجهل قيمة الأوطان .. نحنا بأرواحنا نفدي أراضينا نبيع أرواحنا بأبخس الأثمان .. حقاً على الله ينصر المؤمنينا كم من لجنة يا غرب حققت بالأوطان .. تسمع شكاوى الأعادي مع شكاوينا تقاريرهم أهملت بأي شرع كان .. لولا الدراهم واشتيرن وصهيونا يا غرب نحن عرب من نسل قحطان .. تاريخنا يعلمك أحوال ماضينا نطرب لصوت الموازر في رحى الميدان .. كصوت فاطر بها شاعر يُلبينا يا مسجد الأقصى افرح لا تكُن حزنان .. لبيك لبيك عند الضيق نادينا حولك تلاقي بواسل للقا شجعان .. يسقوا إلى القوم زقوماً وغسلينا يا صخرة القدس كوني في رضا وأمان .. وإن هجرناك إلى الرحمن اشكينا كنيسة المهد من كان بيك طمعان .. حولك تلاقي النصارى والمسلمينا مجمع حماك أسد لا تقبل الخذلان .. لا يباتوا على الضيم يحموا الميادينا وأختم كلامي باسم طه النبي العدنان .. بلفور سقط وعدك حيث تآخينا بعد نكبة فلسطين عام 1948 التجأ الحاج فرحان سلام إلى لبنان ثم سوريا وسكن في مخيم اليرموك قرب دمشق. وتوفي في شهر كانون أول من عام 1999 في إمارة أبو ظبي حيث يسكن ابنه ودفن فيها بعد أن سلم روحه إلى باريها. فادي سلايمة مجلة ״البوابة 24" 29/6/2022