المرحوم الحاج عبد الهادي داوود «الزيب قريتي التي يحتضن ترابها جثمان والدي الشهيد»
أكثر من نصف قرن مثقل بالآلام مرّ على الخروج القسري من فلسطين، لكن أهل فلسطين الذين هُجّروا من أرضهم بالقوة لم يخسروا أحلامهم وتطلعاتهم نحو شمس تشرق حاملة الدفء والنور بعد ليل بارد طويل ألقى بثقله على أرواح هائمة في المنافي. في أحد هذه المنافي، تحديداً في مخيم حندرات بمدينة حلب شمال سورية، التقينا بالحاج عبد الهادي داوود، ابن قرية الزيب قضاء عكا ومختار المخيم.
كان لقاءً مميزاً لم يدُر في خلدنا للحظة أن هذا اللقاء سيكون آخر لقاء معه، وهو الذي يكنّ له أبناء المخيم كل المحبة والاحترام. كيف لا، وهم الذين خرجوا جميعاً ليشاركوا في تشييعه وليتجمعوا في سرادق العزاء الذي أقيم له بعد حوالى شهر من لقائنا به.
في هذا اللقاء حاول الحاج عبد الهادي رحمه الله أن يفرغ لنا كل ما في ذاكرته عن أيام وليال قضاها في قريته الزيب قبل النكبة، وتحدث عن موقع القرية وحدودها وطرقها الرئيسية والفرعية المعبدة منها والترابية، مبيناً أن قريته الزيب هي من القرى التابعة لقضاء عكا تطلّ على ساحل البحر الأبيض المتوسط ويقطعها خط سكة الحديد القادم من لبنان، وتحيط بها قرى منها البصة والكابري والسميرية، وقد قسمت القرية إلى حارات منها حارة العين وحارة تحت البلد «على ما أذكر». وعن عائلات القرية يقول الحاج إنّ في قرية الزيب كانت هناك عائلتان كبيرتان، هما السعدي والفلاحين.
عائلات السعدية هي: السعدي والشيخ طه وعطايا وسعد الدين ويوسف وأبو خالد والمفادي والأسعد.
وعائلات الفلاحين هي: عوض وفارس والقبلاوي وصبحة وقندس والعلواني ورمضان والحسين ومرشود.
لذلك كان في قرية الزيب مختاران هما: محمود عطايا (مختار السعدية)، ودرويش أبو عوض (مختار الفلاحين). ويستدرك الحاج قائلاً: «إذا نسيت بعض العائلات أرجو المعذرة، فقد جلّ من لا يسهو».
ثم يتابع مختار الحندرات: «كل حَمولة كان إلها مضافتها، والبلد كان فيها مسجد واحد وسط البلد، وخطيبه شيخ اسمه فتح الله، وهو كان المأذون أيضاً، وكانت هناك مدرسة درستُ فيها للصف السادس، ولم يكن في البلد مستوصف، فكنا إذا مرض حدا من أهل البلد يروح على عكا وحيفا حتى يتعالج».
ويتذكر الحاج ميزة وجود ينابيع الماء بكثرة، ويقول: «كان أهل البلد يحفروا 8 أمتار في الأرض، وغالباً قبل ما يصلوا لعشرة أمتار، فكانت تنبجس المياه منه بغزارة شديدة.. بلاد خير يا بنيّي».
وبما أن لقاءنا كان على أعتاب شهر رمضان المبارك، فقد حدثنا الحاج عن رمضان في القرية، كان حسب قوله مناسبة سعيدة ينتظرها أهل البلد من عام إلى عام، وهي فرصة للتزاور ولتعزيز العلاقات الاجتماعية ولبث روح الألفة والمحبة والتآخي بين الناس، ويختم: «نكهة رمضان كانت أيام البلاد غير».
فــي خـضـم الـنـكـبـة
ولعلمنا أن الحاج عبد الهادي هو ابن أحد شهداء النكبة، سألناه عن قصة استشهاد والده، فقال بتواضع: «الله يرحم الوالد كان واحد من أهل البلد إللي رافضين يطلعوا منها، وقصة والدي مرتبطة بسقوط البلد، فقد هاجمنا اليهود عند أذان الفجر واحتلوا القسم الجنوبي من البلد وبعدين دخلوا وسط البلد، والهجوم كان من المستعمرات القريبة من البلد، وبخديعة من الإنكليز الذين طلبوا من أهل البلد عدم التصدي لهذه القوات لأنها قوات تريد فقط أن تمرّ من البلد للانسحاب من إحدى المعارك»، على حد زعمهم. وبعدما تبيّنت الخديعة قاوَم أهل البلد «برغم من أن السلاح كان قليلاً، ومعظم هذا السلاح كان فرنسياً، وكان من سورية، وفي هذه المعركة قتل اليهود من قتلوا وأسروا آخرين، وكان والدي من بين الأسرى، لأنه ظل مختبئاً في البلد ثلاثة أيام بعد هذه المعركة، وتم إطلاق النار عليه وقتله أمام مجموعة من الأسرى من أهل البلد».
وعن الخروج القسري من البلد يقول الحاج عبد الهادي: «خرجنا من البلد مشياً على الأقدام مسافة 50 كم تقريباً إلى منطقة رأس الناقورة، ومنها ركبنا سيارات لبنانية إلى قرية جويّا، ومكثنا فيها مدة شهر، من ثم ذهبنا إلى صور، وبعدها طلعنا بالقطارات إلى سورية، ومكثنا أسبوعاً في منطقة النيرب، وبعدها حوالى شهرين في منطقة أخرى اسمها عزاز ومنها إلى معرة النعمان. وفيها أذكر أني درّست الصف الخامس، مع أني كنت دارس بفلسطين للصف السادس لكن هيك طلبوا مني وقتها وبقينا في المعرة حتى عام 1960، وبعده أجينا على حندرات وعشنا في المخيم إلى الآن».
قبل أن نختم لقاءنا بالحاج عبد الهادي سألناه للمرة الأخيرة عن الزيب والعودة إليها فقال بحرقة: «يا ريت نرجع».
|