الحاجة صبحية مرشد زيدان: لو أردنا التعويض لما انتظرنا ستين سنة
ماهر الشاويش/ دمشق
«بنرجع على بلد الشيخ حتى لو نعيش في خيم»، بهذه الكلمات عبرت الحاجة صبحية زيدان «أم مصطفى الولي» عن رغبتها في العودة إلى قريتها وتمسّكها بها، مستنكرة طرح هذا السؤال عليها، فهي وهبت فلسطين أحد أبنائها لأنها على اقتناع تام بأن الشهادة هي التي تقربها من قريتها بلد الشيخ.
من المدينة إلى القرية
ثم تابعت: ولدتُ في حيفا المدينة عام 1929، وعشت وتزوجت في قضائها في بلد الشيخ، وما أذكره عن حيفا بعض المواقف التي كانت تحدث في طفولتي، ولم أجد لها تفسيراً إلا عندما كبرت. وسألت والدي عن تلك الأحداث، حيث كنا في المدرسة وطلب الأساتذة منا مغادرتها والذهاب إلى بيوتنا وفي طريق عودتي إلى البيت شاهدت أصحاب المحالّ التجارية يقفلونها جماعياً والناس يركضون في أحياء حيفا وشوارعها وأصوات التفجيرات تهزّ أرجاء حيفا. وفي الحقيقة كانت هذه أحداث الإضراب الكبير وثورة عام 1936 حسب والدي.
أما عن بلد الشيخ فتقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة حيفا، وتبعد عنها حوالى 7 كم وأقرب القرى إلينا هي قرية يازور، ويعود اسمها نسبة إلى الشيخ السهلي الصوفي، وتحتوي القرية على آثار، كما تضم قبر شيخ المجاهدين عز الدين القسام.
طرق القرية ترابية، وتقع على سفح جبل وتكثر فيها المروج ويقطعها خط سكة حديد، والطريق الرئيسي إليها معبد، وكان يتنقل أهل القرية مشياً على الأقدام أو على الدواب، وبعضهم كان يستخدم الدراجات، فيما يركب آخرون الباص. وكانت الباصات تتبع لشركتين: نمرة واحد للعرب، ونمرة خمسة لليهود، وندفع قرشاً أو قرشاً ونصف قرش إلى حيفا، وفي باصات اليهود كانوا يدفعون زيادة عن الأجرة مِلاًّ واحداً من أجل مشروع كانوا يسمونه مشروع الملّ لدعم مخططاتهم ومشاريعهم.
الخدمات في القرية
البلدة كانت مقَسّمة:الحارة الشرقيِّة والحارة الغربيِّة والحارة الوسطى. أما عائلات القرية فمنهم: دار الشيخ صالح السهلي ودار عثمان الهاشم ودار يونس ودار الوُلي ودار محمد علي ودار حمدان ودار عبد الحفيظ ودار العبد أبو راسين ودار علي السعيد وغيرهِم.
وأضافت الحاجة صبحية: كان في القرية أكثر من مدرسة وهي مدارس مختلطة للبنين والبنات، وأشهرها مدرسة الشيخ عبد الله السهلي وكنا ندرس للصف السابع وبعدها نذهب إلى حيفا لمتابعة الدراسة، وكنا ندرس القرآن والتاريخ والجغرافيا والحساب والإنكليزي، ومادتي الأخلاق والإنشاء.
كان في القرية جامع واحد يصلي فيه أهالي القرية معظم الصلوات. أما علاج المرضى فكان يجري في حيفا، ويوجد في القرية علاج طبيعي، وتوزع في حاراتها عدد من الدكاكين، أبرزها دكان الشيخ علي صالح السهلي، فيما يقع المقهى على الشارع الرئيسي وهو لشخص من آل السهلي على ما أذكر اسمه حسن السهلي.
أما حلاق القرية فقد خرج معنا بعد النكبة وسكن في منطقة الشاغور في الشام، وظل زوجي يحلق عنده حتى وفاته، فقد كان يذهب إليه كل شهر من داريا إلى منطقة الشاغور، وعندما أعاتبه وأطلب منه أن يحلق في داريا يقول لي: «والله يا مَرَى بَشمّ فيه ريحة البلاد».
وفي خطوة احتجاجية، ومن باب مقاطعة اليهود رفض بعض أهالي البلد إدخال المياه والكهرباء التي كانت تقدمها الشركات اليهودية إلى بيوتهم، حتى لا يدفعوا لليهود ولا يسمحوا لهم بدخول بيوتهم.
رمضان والأعياد في القرية
من الأعياد التي كان أهل القرية يحتفلون بها عيد الفطر السعيد، وقبله رمضان، وكانت فيه طقوس خاصة عند الرجال والنساء، فالرجال كانوا يلتقون في الدواوين يومياً وأحاديثهم تتركز على الفلاحة والزراعة في القرية. أما نحن النساء فكنا نعدّ الطعام والحلويات الخاصة برمضان،ومنها القطايف، وكذلك قمر الدين، وهو مادة أساسية في رمضان. وصلاة التراويح تقام في الجامع ليبدأ بعدها برنامج الزيارات والسهرات. وأذكر أن اسم المسحر في القرية قبل النكبة كان أبو الغزلان، وفي صبيحة عيدي الفطر والأضحى يؤدي أهل القرية صلاة العيد في جامعها، وبعد الصلاة يعايد بعضهم بعضاً.
كذلك كان أهل القرية يحتفلون بذكرى المولد النبي، وكان هناك عيد يدعى خميس الأموات، وهو رابع خميس في نيسان تُوزّع فيه الحلوى بأنواعها، ويُسلَق فيه البيض، وكانت حلويات العيد تختلف عن حلويات رمضان، فحلويات العيد هي عبارة عن الكعك والمقروطة.
قصة الرحيل والشتات
بغصّة وألم كبيرين وحشرجة لم تفارق صوتها، حدثتنا الحاجة أم مصطفى عن قصة رحيلها عن قريتها بلد الشيخ فقالت: كنا قد قرأنا عن مجزرة دير ياسين في جريدتي الدفاع وفلسطين، ولا شك في أن هذه المجزرة قد أخافت الناس، ومع ذلك فقد بدأت قصة رحيلنا بعد الهجوم على القرية وبعد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق أهل البلد، فالقصف على قرية بلد الشيخ كان من كل حدب وصوب، وقد اضطررت تحت وطأة ذلك أن أغادر القرية باتجاه جنين، وتحديداً قباطية في الضفة الفلسطينية، فقد كان أهلي هناك، وتبعني إلى هناك زوجي المرحوم عبد الواحد الولي، لأن رجال القرية تأخروا عنا بسبب بقائهم للتصدي لهجوم اليهود، وكان عندي وقتها بنت عمرها آنذاك أي في نيسان 1948سنتين ونصف سنة اسمها خديجة، فيما كان عمر ابني مصطفى شهرين ونصف شهر.وغالبية الأهل المهجرين من قريتنا سواء باتجاه الضفة أو سورية لم يكونوا يملكون فراشاً ولا فلوساً كافية، وخاصة أنهم كانوا يظنون كل الظن أن العودة قريبة لا تتجاوز أسبوعين. فضلاً عن ذلك، فإن سكان قرية بلد الشيخ كانوا قد دفعوا الفلوس المتوافرة لموسم الزراعة في أوائل عام 1948.
في الشتات
تابعت الحاجة أم مصطفى:قام بنقلنا إلى دمشق أحد عشر تراكتوراً (جراراً زراعياً)، وذلك مع عائلات فلسطينية أخرى، وقد نزلنا في قلعة بصرى الشام لمدة خمسة أيام، وبعد ذلك جرى الرحيل إلى دمشق، واستأجرنا بيتاً كبيراً في سوق ساروجة في وسط دمشق/ حارة قولي/ والمنزل هو ملك الحاج رشيد داود آغا، وكانت أجرته آنذاك خمس ليرات سورية حتى عام 1950، فقد رحلنا بعد ذلك إلى المزة في «السوق الجواني»، وسكنّا في منزل عربي، ثم إلى كفرسوسة في عام 1958، حيث سكنا حارة الحمام. وحين تُوفي زوجي أبو مصطفى الولي في العاشر من آب 1992، كان عندي أربعة أولاد ذكور إضافة إلى ابن استشهد عام 1979، فضلاً عن ابنتين هما خديجة وأسماء، وعلى الرغم من وفاة زوجي، فقد احتفظت بأهم الوثائق، وخاصة كواشين ملكية الأراضي، وعقد الزواج التي تثبت الملكية لنا في قريتنا بلد الشيخ.
وتضيف أم مصطفى: آخر محطة لنا كانت في داريا في عام 1979، أي بعد إقامة دامت 21 عاماً في كفرسوسة. وبعد السؤال عن أملها في العودة إلى قريتها بلد الشيخ بعد أكثر من نصف قرن من النكبة ورحلة الشتات، أجابت أم مصطفى الولي بأنها كلها أمل في ذلك.
مجلة العودة