العربي الجديد
لقدس المحتلة - محمد محسن
22 فبراير 2021
"حضّر حالك جايين بكرة نهدملك"، كان المتصل شخصاً مجهول الهوية، والجهة التي ينتمي إليها معروفة وهي بلدية الاحتلال في القدس– قسم المراقبة على البناء، أما المتلقي فكان فادي عليان، مسؤول وحدة الحراسة الصباحية في المسجد الأقصى المبارك، وكان الاتصال يوم أمس الأحد، قبل يوم واحد فقط من تنفيذ عملية هدم منزل عائلته.
صباح اليوم الإثنين، بدا المشهد في بلدة العيسوية الواقعة إلى الشمال الشرقي من مدينة القدس المحتلة أشبه باجتياح عسكري لهذه البلدة شاركت فيه قرابة أربعين مركبة عسكرية وأخرى تابعة لبلدية الاحتلال في القدس، بالإضافة لأعداد كبيرة من جنود الاحتلال اقتحموا البلدة راجلين ليمهدوا لعملية هدم بناية سكنية مكونة من أربع شقق تقطنها عائلة فادي عليان أحد مسؤولي الحراسة في المسجد الأقصى.
ما حصل اليوم كان نموذجاً موسعاً لعمليات هدم شبه يومية تنفذها بلدية الاحتلال في العيسوية وسائر أحياء وبلدات القدس المحتلة، ومنها عشرات عمليات الهدم الذاتي التي ينفذها مقدسيون لمنازلهم بأوامر من بلدية الاحتلال تحت طائلة العقوبات المالية وفرض رسوم الهدم الخيالية على من لم ينفذها تصل إلى نحو 100 ألف شيكل (29 ألف دولار)، وإرغام أصحاب المنازل على إزالة ركام منازلهم بأيديهم.
وبينما كانت والدة صاحب المنزل فادي عليان تنتحب وهي تقف تشاهد هدم منزل العائلة، الذي وصفه نجلها بأنه هدم كيدي وعقوبة تفرضها سلطات الاحتلال عليه نكاية به لعمله حارساً في المسجد الأقصى، وهي ليست العقوبة الأولى التي تفرض على زملائه من الحراس، إذ نالهم من الهدم والملاحقة ما ناله اليوم.
قول عليان: "هم يهدمون، ونحن سنعيد البناء بعون الله، لن نرحل من هنا حتى ولو أمضينا العمر كله على ركام منازلنا".
ويلفت عليان إلى تلقيه قبل ذلك عدة اتصالات هاتفية من رجل المخابرات المسؤول عن بلدة العيساوية ومن آخرين يهددونه فيها بهدم منزل العائلة إن لم يترك عمله حارساً في الأقصى، وهو ما تم اليوم حيث نفذوا تهديدهم.
تبلغ مساحة البناية التي هدمت اليوم حوالي 370 متراً مربعاً، وتضم 4 شقق سكنية، تعود لفادي عليان وشقيقيه مراد وأمجد ووالدهم، ويقطن فيها 17 فردًا منهم 12 طفلاً، وكانت العائلة انتهت من تشييدها قبل عشر سنوات، علماً بأن البناية تقع ضمن الخارطة الهيكلية المسموح فيها بالبناء في البلدة.
والدة فادي تحدثت لـ"العربي الجديد"، قائلة: "إن ما جرى اليوم من هدم للمنزل نكبة نعيشها، كل شقا العمر راح، نحنا مش طالعين، قاعدين على قلوبهم، الله يخلّص حقنا منكم، ربنا ينكبهم ويشتتهم زي ما شتتونا، حسبي الله ونعم الوكيل".
لم يكن هدم منزل فادي عليان العقوبة الأولى التي يتعرض لها ارتباطاً بعمله حارسًا للأقصى، لقد تعرض أكثر من مرة للاعتقال والضرب في ساحات الأقصى، وسبق أن أبعد عن الأقصى أكثر من مرة تراوحت ما بين أسبوع وستة شهور.
بدوره، يقول محمد أبو الحمص من لجنة المتابعة في البلدة في حديث لـ"العربي الجديد"، والذي أصيب بعيار مطاطي في البطن خلال تصدي الأهالي لاقتحام البلدة لتنفيذ عملية الهدم، "إن عملية الهدم التي تمت اليوم لمنزل عائلة عليان تضاف إلى عشر عمليات هدم نفذت في البلدة منذ مطلع الحالي، وهو عدد كبير من المنازل أرغم أصحابها على هدمها".
ويشير أبو الحمص إلى أن الاحتلال يهدف من ذلك إلى منع أي امتداد عمراني في ما تبقى من أراضي بلدة العيسوية، لصالح ما تسمى بـ"الحدائق الوطنية" التي يقيمها الاحتلال على حساب أهالي البلدة.
منذ سنوات وسلطات الاحتلال ترفض المصادقة على الخريطة الهيكلية للبلدة، وهدفها واضح، يؤكد أبو الحمص: "لا يريدون أي بناء فلسطيني في المنطقة لصالح مشاريعهم الاستيطانية على أراضي البلدة ومحيطها".
وفي وصفه لمشهد ما سبق من عملية الهدم لمنزل عائلة عليان يقول أبو الحمص: "لقد حوّل الجنود البلدة إلى ثكنة عسكرية، بدأت بمحاصرة المنزل ومحيط البلدة بأكثر من أربعين مركبة عسكرية وجرافتين، وتخلل ذلك إبعاد المواطنين بالقوة من منطقة الهدم".
وكانت محكمة إسرائيلية قد رفضت في الثامن من أغسطس/ آب من العام الماضي، تجميد قرار هدم منزل عائلة عليان ببلدة العيسوية، بعد أن صادقت على وقف أي إمكانية لمواصلة إجراءات الترخيص من قبل العائلة.
ويرى مختصون في شؤون القدس وممارسات الاحتلال فيها، أن عوامل سياسية وجغرافية وديمغرافية تقف وراء استهداف الاحتلال لبلدة العيسوية، وتصعيد ممارسات القمع والحرمان من حق السكن لأبنائها، بحيث طاولت هذه الممارسات البشر والحجر على نحو لا يشابهه وضع في سائر المدينة المقدسة.
وفي هذا الإطار، يرى الخبير المختص بشؤون الاستيطان، خليل تفكجي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن استهداف العيسوية على هذا النحو هو استهداف مستمر منذ زمن طويل حيث يسعى الاحتلال بعد سيطرته على معظم أراضيها وإحاطتها بالمستوطنات من جميع الجهات إلى إخراجها من منطقة نفوذ بلدية الاحتلال في القدس، بعد تحطيم بنيتها الديمغرافية وتركيبتها السكانية.
وتابع تفكجي: "كما أنه مرتبط بنفق تحت الأرض يربط بلدة العيسوية ببلدة عناتا المجاورة، ليتبعها بعد ذلك إغلاق مدخلها الغربي الرئيسي، الذي يربطها بمركز مدينة القدس، علماً بأن سلطات الاحتلال أنشأت أخيراً حاجزاً عسكرياً شرقي البلدة، يربط الشوارع بين جنوب الضفة الغربية المحتلة وشمالها، ضمن مخطط للفصل بين سيارات الفلسطينيين والمستوطنين".
ووفقاً لتفكجي، فقد أُقيم هذا الحاجز على جزء من 2070 دونماً من أراضي بلدة العيسوية التي صودرت عام 1994، وقد شيّد الاحتلال على جزء منها جدار الفصل العنصري. مع العلم أن الحاجز هو جزء من خطة هيكلية تحمل رقم 4585، ومعروفة بـ"شارع الطوق"، الذي يشمل أيضاً شق أنفاق تحت مدينة القدس وجسور فوقها، ويمتد شرقاً من بلدة عناتا حتى حاجز قلنديا، بالإضافة إلى طريق أبو جورج، شرقي عناتا.
وتعتبر العيسوية من البلدات الفقيرة في القدس وتقع على السفوح الشرقية لجبل المشارف، وهي محاصرة بسلسلة من المؤسسات الإسرائيلية مثل الجامعة العبرية ومستشفى هداسا ومستوطنتي "التلة الفرنسية" و"تسميرت هبيراه" ومعسكرات للجيش والشرطة وشوارع. أي أنّ العيسوية محصورة داخل رقعة أرض مكتظّة لم يتبقّ فيها تقريباً مكان لإضافة أيّ بناء.
وفي عام 1945 بلغت مساحة أراضي العيسوية نحو 10 آلاف دونم، من سفوح جبل المشارف شرقاً إلى منطقة الخان الأحمر شمالاً، أما المساحة التي تبقّت للبلدة اليوم فلا تصل إلى ألف دونم. ومنذ أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية، نهبت أكثر من 90 في المائة من أراضي البلدة وضمّت بعضها في عام 1967، من خلال المصادرة وإعلان مساحات واسعة كـ"أراضي دولة" أو وضع اليد بموجب أوامر عسكرية.