بدأت بروضة وانتهت بجمعية خيرية
نادرة جرار.. تسعة عقود خدمةً لقريتها
لا تكلّ المربية التسعينية نادرة جرار ولا تملّ، إذ تواصل نشاطها ليل نهار لتقدم عملها الدؤوب الذي بدأته قبل نحو خمسين عاما بروضة أطفال واختتمته بإنشاء جمعية خيرية، خدمة لأهالي قريتها "برقين" جنوب مدينة جنين شمالي الضفة الغربية، غير آبهة بمتاعب الحياة أو مسلّمة للأمر الواقع.
فمن ضيق ألمّ بها في صغرها ومعاناة لم ترد لها أن تطول، قررت نادرة أن تخوض غمار العلم والتعليم في وقت انعدمت فيه السبل إلى ذلك وخاصة للإناث، فلجأت لأشقائها ونهلت من علمهم، لكن فرصتها لم تكن كبيرة، فتوتر أحداث النكبة ودوران رحى الحرب مطلع أربعينيات القرن الماضي حال دون ذلك.
وتقول جرار في حديثها إن حالها ظل على ما هو عليه حتى مطلع الستينيات من القرن ذاته، عندما التحقت وابنة عمها بمدرسة القرية، مشترطة على مدرسيها تعليمها علوم القرآن والدين وشيئا من الحساب "فالعادات لم تكن لتسمح بأكثر من ذلك، ولم نكن نريد أكثر منه".
كان الثمن مقابل التعليم بسيطا، وكانت المقايضة بما في المنزل من برغل وقمح وبيض هي الأجر "وكنت وابنة عمي نختلس بعض الطعام وأشياء أخرى من البيت كي نقدمها للمعلمة التي كان حالها المادي سيئا".
ولم تستطع الحاجّة نادرة جرار أن تكمل سنتها التعليمية الأولى بسبب الظروف، فقد هاجرت معلمتها خارج فلسطين، لكنها حافظت على روح النشاط والتفاني في خدمة قريتها وحوّلت مسارها التعليمي النظري إلى آخر عملي، فتعلمت الحياكة والتطريز وعمل أشغال يدوية، وبدأت تعلمها لنساء القرية في غرفة بمنزلها.
روضة لتعليم الأجيال
وبعزيمة لم تنطفئ، تصاعدت نجاحات نادرة واستخدمت مالها الخاص لتحقيق أهدافها، فحالتها المادية أصبحت أيسر من غيرها، فافتتحت سنة 1964 روضة لأطفال قريتها، وأوجدت حالة من التوازن بين عملها في الخياطة والتعليم بالروضة.
ولسبب إنشاء الروضة حكاية لا تزال حاضرة في ذاكرة الحاجة نادرة، فقد هالها منظر الصبية يلعبون بالوحل في أحد أزقة قريتها، فسألتهم ما الذي يجعلكم هكذا؟ فردوا عليها بأنه لا يوجد من الأماكن ما يقضون فيه وقتهم، فما كان منها إلا أن أعلنت افتتاح روضتها في اليوم التالي.
وتقول نادرة "استغربت أمي من فعلتي، ودعتني لعمل مصلحة خاصة تدر علي مالا" لكنها لم تقتنع وباشرت بإنشاء روضتها التي خلت في بداية عهدها من أي مظاهر كمالية كالألعاب مثلا، واكتفت بغرفة داخل منزل العائلة ومقاعد إسمنتية "وضعت عليها بعض قطع القماش وافترشتها".
ولم يكن حال الطلاب بأفضل، فذكريات الملابس المهترئة والقرطاسية البسيطة لا تغيب عن ذهن الصحفي عبد الباسط خلف، أحد خريجي الروضة عام 1979. الذي قال "لا أكاد أنسى حكاية الحاجة جرار، ولا قصة روضتها ومبادرتها، وشغفها بالتطوع والعمل الخيري".
والمفارقة الجميلة، أن لخلف طفلين تخرجا من الروضة ذاتها -رغم مضي أكثر من ثلاثة عقود- وتمتعا بالرعاية ذاتها. ولهذا لا تفارق مخيلة جرار صورة الطلبة التسعين الذين التحقوا بروضتها التي بدت -في نظرها آنذاك- وكأنها "جامعة".
الروضة أنشئت 1964 وما زالت قائمة وتقدم خدماتها لعشرات الأطفال إضافة للجمعية
جمعية خيرية
كان قرار تحويل الروضة إلى جمعية خيرية صعبا في بدايته، خاصة بعد إغلاق أبوابها فترة وجيزة إبان أحداث النكسة عام 1967.
فعمدت نادرة جرار عام 1969 إلى تحويل الروضة لجمعية خيرية تتمكن عبرها من الحصول على بعض الدعم المادي والتموين من وزارة الشؤون الاجتماعية، وقالت مما استقر بذاكرتها "زارتني زوجة ابن خالة لي إيرانية الأصل وكانت تعمل مفتشة لرياض الأطفال في لواء عكا، ودعتني لعمل جمعية".
وفعلا أقدمت الحاجة نادرة وزميلات لها على تنفيذ الفكرة، وتنويع نشاطها وخلق بؤرة نسوية تهتم بالتراث والتطريز، لتعين نفسها على هموم الحياة.
وحتى الآن ما زالت "جمعية برقين الخيرية" -كما أرادتها نادرة- صامدة بعد سنين عجاف، لكن شيئا من محدثات العصر "المقيتة" بنظرها دخلت عليها، فحوّلت جزءا منها إلى حضانة، وأبقت على الجزء الآخر روضة تعلم فيها خمسُ مدرسات -مضت على عمل بعضهن أربعون عاما- عشراتِ الطلبة.
لم يثن تطاول الأيام وتقادم العمر الحاجة نادرة جرار عن المتابعة اليومية لشؤون الجمعية، إذ ما زالت تتولى بنفسها الإشراف على تعليم أفواج الطلبة، وتقديم الإرشادات العلمية والتربوية لهم، والوقوف معهم في طابور الصباح لقراءة القرآن وسماع النشيد الوطني الفلسطيني.
المصدر:الجزيرة