صادف يوم الحادي والعشرين من نيسان (إبريل) الماضي الذكرى الـ 65 لاحتلال مدينة حيفا الفلسطينية من قبل عصابات "الهاغاناه" الصهيونية. ومنذ ذلك الحين تواصل سلطات الاحتلال رسم ملاحم التهويد على محياها، بحيث تنتزع أي إشارة إلى عروبتها.
فقد عملت السلطات الصهيونية منذ أكثر من ستة عقود ونصف على تفكيك المشهد الأصلي لمدينة حيفا وتغييره وتهويده عبر سياسة ممنهجة ومثابرة.
موقعها الإستراتيجي جعل منها ميناء بحريا أصبح الأول في فلسطين، كما جعل منها بوابة للعراق والأردن وسوريا الجنوبية عبر البحر المتوسط.
وهي ذات أهمية تجارية وعسكرية طوال فترة تاريخها، ولهذا تعرضت للأطماع الاستعمارية بدءاً من الغزو الصليبي وحتى الاحتلال الصهيوني. وقد امتدت إليها خطوط السكك الحديدية لتربطها بالمدن الفلسطينية والعربية، من غزة واللد إلى بيروت وطرابلس ودمشق.
يقول الدكتور مصطفى كبها، أستاذ التاريخ والإعلام في الجامعات الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة إن "حيفا هي عروس الكرمل، إذ يمثّل جبل الكرمل بجغرافيته ومكانته دعامة أساسية جعل حيفا مركز البلاد إلى جانب نشاطها التجاري والصناعي".
موقع إستراتيجي
وحول أهمية المدينة بالنسبة للاحتلال الصهيوني، والسبب وراء الاهتمام بها والسيطرة عليها يوضح كبها بالقول: "تشكل حيفا مدينة استراتيجية من حيث الموقع الجغرافي، سواء موقعها الساحلي أو حتى طبيعة تضاريسها، لذلك أصبحت المدينة الاكثر احتضانا للمنشآت الاستراتيجية من مصافي بترول وغيرها التي تقيمها الدولة".
تقع المدينة على الشاطئ الجنوبي لخليج عكا، في شمال الأراضي المحتلة عام 1948، وتنتشر عند السفح الشمالي لجبل الكرمل، والساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وتبعد عن مدينة القدس حوالي 158 كيلومترًا إلى الشمال الغربي. حيث تمتاز حيفا من ناحية طبيعية بتوفر الخامات المعدنية والمياه الجوفية والسطحية والتربة الزراعية والثروة السمكية.
الكاتب الدكتور جوني منصور ابن مدينة حيفا يؤكد في كتابه الجديد "مسارات حيفا العربية" أن "إسرائيل ماضية بتطبيق مشروعها بطمس المعالم العربية وبهدم الكثير من المنازل والأثار العمرانية في مدينة حيفا، "عروس الكرمل" التي تصادف ذكرى سقوطها اليوم الأحد (12-5). وأشار إلى أن السلطات الصهيونية سارعت عقب النكبة عام 48 لتحويل أملاك العرب في المدينة لإدارة ما يعرف بـ "الوصي على أملاك الغائبين" وأنها تمعن في تهويد المكان استمرارا لخطة قديمة عرفت بـ"شكمونا". ودعا د. جوني منصور الهيئات الوطنية للعمل معا من أجل الحفاظ على هوية حيفا العربية والحيلولة دون طمس معالم المدينة الباقية كشاهد على التاريخ.
النكبة ومخطط التهجير
يقول الدكتور أحمد سعدي، المؤرخ والباحث في العلوم الاجتماعية، إن هناك معلومات موثقة تؤكد تنفيذ الاحتلال لخطة متكاملة ومحكمة هدفها طرد الفلسطينيين من حيفا وتفريغ المدينة منهم، وذك عن طريق إحصاء السكان واستبعاد من تمت تسميتهم بالحاضرين الغائبين".
وشرح السعدي -في ندورة عُقدت في رام الله مؤخرًا وحضرتها "قدس برس"- السياسات والإجراءات الصهيونية لطرد المواطنين الفلسطينيين من أرضهم وبلادهم، خاصة من العام 1948.
وكشف عن وجود سياسة ونوايا صهيونية مبيتة منذ عقود لتهجير المواطنين الفلسطينيين وطردهم، وذلك بخلاف ما تروج له أوساط صهيونية بهذا الصدد.
وأكد أن "فكرة الطرد كانت هي السائدة في بدايات الدولة، ولكن الأمر كان مرهونا بانتظار حدوث حرب، وتم نقاش فكرة إيجاد معسكرات للعرب، في إطار الحديث عن فترة انتقالية، لافتًا النظر إلى أن السياسة الصهيونية المعلنة في العام 1949، تمثلت بمنع أي عودة للاجئين، وفصل اليهود عن العرب في الداخل عبر "ترانسفيرات داخلية" إلى جانب تدعيم سيطرة الدولة وتهويد المكان.
الترحيل الصامت
ويضيف سعدي أن الترحيل لم ينته بانتهاء الحرب، بل استمر حتى مرحلة متقدمة؛ إذ تم ترحيل المجدل وهدمها في العام 1952، بعد أن كان تم تركيز سكانها في حي واحد، ومنحهم بطاقات صهيونية.
وبيّن أن الكيان الصهيوني تبنى أيضاً سياسة "الترحيل الصامت"، والتي تمثلت بالتضييق من ناحية، ومن ناحية أخرى بتقديم تسهيلات ومساعدات مالية ترغيباً بالهجرة. متابعاً القول "كان ذلك في إطار مخطط رسمي"، وأشار إلى "مخطط يوحنان" والذي كان هدفه نقل مسيحيي الجليل إلى البرازيل وأستراليا، وكانت هذه خطة رسمية، لكنهم سعوا لإظهارها وكأنها تحدث بإرادة السكان".
وذكر إنه في العام 1952 اتضحت للسلطات الصهيونية عدم واقعية فكرة الترحيل في المدى المنظور، وشعرت بحاجة إلى صياغة سياسة جديدة ترتكز على إقامة جهازين للحكم، واحد لليهود وثاني للعرب، وتطوير نمط من العلاقة "الإلحاقية والتفتيتية" تجاه المجتمع العربي.
وأضاف السعدي إن "خطة متكاملة بلورت في أواسط الخمسينيات ارتكزت على ثلاث فرضيات؛ هي عدم إمكانية الطرد، وعدم إمكانية استيعاب العرب كمواطنين، وضرورة إعطاء الأمن أهمية كبيرة في العلاقة مع العرب، واتخاذه ستاراً لتمرير تغيرات جغرافية".
وأشار إلى ما اعتمده الكيان الصهيوني وأجهزته في تنفيذ هذه الخطة من أدوات كثيرة، هدفت إلى كسر التواصل الجغرافي الفلسطيني ومنع تبلور أي حراك يفضي إلى مؤسسات ذات مغزى سياسي، كما تعاملت سلطات الاحتلال مع المجتمع كطوائف وأحيت النعرات في أوساطه، ودعمت البنية التقليدية العائلية لإحكام السيطرة على المجتمع وتفريغ فكرة المواطنة من مضمونها.
تاريخ مدينة حيفا
يعود تاريخ تأسيس المدينة لحقبة "ظاهر العمر"، الذي حكم الجليل الفلسطيني وأنشأ ميناءها للمساعدة على تصدير القطن، حيث إن الأسوار التي بناها ظاهر بقيت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.
يقدر عمر مدينة "حيفا الحدية" بـ 250 عاماً، مع الإشارة إلى أن تاريخ المدينة ونشأتها تعود إلى الفترات الكنعانية. ومن بين العوامل التي ساهمت في نشأة حيفا، الرغبة في تأمين الطرق بين شمال فلسطين وجنوبها، إلى جانب أن تكون منفذاً إضافياً إلى جانب عكا على ساحل البحر المتوسط، إضافة لعوامل تطورها بالهجرة الفلسطينية "الداخلية" والعربية إليها، ومد خط حديد الحجاز، وإنشاء مصلحة للميناء، ومنطقة صناعية فيها.
كانت حيفا من كبريات المدن الفلسطينية قبل عام 1948، تضم 18 عشيرة و52 قرية، دمر منها العديد من القرى لإقامة المستوطنات حيث أصبحت تضم 90 مستوطنة، ومازالت اليوم ثالث أكبر مدينة في فلسطين المحتلة من حيث عدد السكان، بعد القدس و"تل أبيب"، وهي مركز صناعي وتجاري رئيس.
سكان حيفا والتطور الديمُغرافي
هبط مجموع سكان حيفا في أواخر عام 1948 إلى 97.544 نسمة بسبب الاحتلال للمدينة وطرد السكان الفلسطينيين منها، الذين أصبح عددهم 2500 نسمة بعد النكبة، وأصبح اليهود يؤلفون -بعد رحيل معظم الفلسطينيين- 96 في المائة من عدد سكان المدينة.
ويشكل الفلسطينيون اليوم ما نسبته 11 في المائة من السكان في حيفا، أي حوالي أربعين ألف نسمة، نتيجة للهجرة العكسية لليهود من حيفا إلى دول أخرى، ولزيادة معدل الخصوبة للأسر الفلسطينية مقارنة بالأسر اليهودية.
ويقدّر باحثون أن عدد السكان الفلسطينيين في المدينة خلال عام 1914 بـ 18 ألف فلسطيني، شكلوا ما نسبته 85 في المائة من السكان، بينما وصل عددهم العام 1944 نحو 64 ألفا شكلوا ما نسبته 49 في المائة من السكان، مقابل 34 ألف نسمة العام 1948، ونحو 35 ألفا العام 2010، أي ما يشكل نحو 11 في المائة من السكان، بينما بلغ عدد الصهاينة زهاء 230 ألفا.
ويتركز ما نسبته 73 في المائة من أهالي حيفا في حيي وادي النسناس، وعباس، حيث إن بلدية حيفا الاحتلالية تخطط لتأهيل كل المدينة باستثناء الأحياء العربية فيها، التي يتوقع أن تعاني مستقبلا من كثير من الإشكاليات، ما سيؤدي إلى ترحيل سكانها الفلسطينيين.
المصدر: المركز الفلسطيني للإعلام