لا يمكن لأي فلسطيني عادي أو عربي مثقف إلا أن يكون قد تعرف على أحد أركان عائلة صايغ الفلسطينية جداً، والمثقفة والرائدة جداً. عائلة المثقفين العضويين الذين لم يرضوا بأقل من الريادة في أعمالهم وجهودهم من أجل فلسطين.
يوسف صايغ، الاقتصادي الكبير، مؤسس مركز التخطيط الفلسطيني، الذي ترأسه لسنوات، وصاغ منهجيته وأعماله الأولى، وترأس الصندوق القومي الفلسطيني كعضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية.
فايز صايغ، مؤسس مركز الأبحاث الفلسطيني عام 1965، وواضع أسسه لعدة سنوات، حتى استقالته.
أنيس صايغ، مدير عام مركز الأبحاث في ذروة نشاطه، ومؤسس ورئيس تحرير مشروع الموسوعة الفلسطينية، وأحد أكبر الرموز الثقافية الفلسطينية على الإطلاق.
توفيق صايغ، الشاعر الذي جدد في الشعر الفلسطيني، وقاد مع عدد من الشعراء العرب تياراً منهجياً في التحديث الشعري، وجعله مشروعه الذي دافع عنه.
أما فؤاد صايغ، فكان مهندساً، ومنير صايغ طبيباً..
ولد توفيق صايغ عام 1923 في قرية خربا في حوران في جنوب سوريا، وعاش مع أهله منذ عام 1924 حتى النكبة في طبريا في فلسطين.
درس مثل إخوته في الكلية العربية في القدس، وفي الجامعة الأمريكية في بيروت التي تخرج منها عام 1945، وفاز بمنحة دراسية عام 1951 ليكمل دراسته الأدبية في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة، وفي أيلول (سبتمبر) 1954 أصدر ديوانه الأوّل "ثلاثون قصيدة"، متخطّياً المدرسة العراقيّة (السياب ونازك والحيدري والبياتي) ومبشّراً بولادة شكل شعريّ جديد رسّخته مجلة "شعر" التي صدرت بعد ذلك في عام 1957.
عمل محاضراً في جامعة أكسفورد ثم عمل كمحاضر في جامعة كامبردج حتى عام 1959. وأصدر ديوان "القصيدة ك" في عام 1960 وهو محاضرٌ في كلية الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة في جامعة لندن، حيث بقي كذلك حتى عام 1962.
جعل التجديد الشعري قضيته، وقصيدة النثر أساساً في مهمته التجديدية، ولم يكتب الشعر من فراغ، فهو لم يلجأ لقصيدة النثر بسبب جهله ببحور الشعر، مثل بعض "الشعراء"، بل جاء إليها من خلفية قراءاته في الأدب المقارن الذي تخصص به، وتعمّقه في مدارس الشعر الغربي.
على أنني، رغم رفضي الشخصي لقصيدة النثر، إلا أنني ككاتب فلسطيني لا يمكنني تجاوز فكرة أنه رائد هذا التيار، الذي بدأه في مجلة شعر وديوانه "ثلاثون قصيدة"، وجرى إغفال دوره ونسيانه لأسباب عديدة. رغم أن ستّ سنوات كاملة تفصل باكورته الشعرية عن مجموعتَي أنسي الحاج "لن"، ومحمد الماغوط "حزن في ضوء القمر". وبصرف النظر عن الطابع الإشكالي لتجربته فإن إغفاله عن ريادة قصيدة النثر العربية تعسفي غير مبرر.
بعد ديوانه الأول درّس صايغ في جامعة لندن حتى عام 1962. وهنا بدأت أزمته الحقيقية قبل أن يهاجر عام 1967 إلى الولايات المتحدة كأستاذ زائر في جامعات: برنستون، شيكاغو، جون هوبكنز وجامعة بركلي في كاليفورنيا.
أزمة مجلة "حوار"
في عام 1953 أطلق سهيل إدريس مجلة "الآداب" من بيروت بمنهجها القومي اليساري، وأصدر شاعرنا ديوانه الأول عام 1954، ثم أطلق يوسف الخال مجلة "شعر" عام 1957 ذات الصبغة اليمينية، لتشارك "الآداب" في المشهد الشعري العربي. وكان صايغ يفضل "شعر" وينشر فيها، وانتمى إلى جماعة "شعر" الأدبية، لأنها عملت على التجديد الشعري.
ولأنه شاعر فحل وناقد مطلع ومترجم فذّ ومحرّر ماهر، وهو في الوقت نفسه متبحّر في التراث العربي، قديمه وحديثه، وأستاذ جامعي في الأدب المقارن، كان هو الأنسب ليقود مشروع مجلة "حوار"، التي أحدثت حرباً فكريّة لم تُحدثها مجلّة عربيّة مثلها.
فقد صدرت المجلّة بتمويل من "المنظّمة العالميّة لحريّة الثقافة" التي كانت تتّخذ من باريس مقرّاً لها. شارك فيها نخبة من المفكّرين العرب وأفسحت المجال أمام كتّاب القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، إلّا أنّها حوربت في العواصم العربية على السواء (اليمينية واليسارية) منذ صدورها لارتباطها بالمنظّمة العالميّة.
في عام 1966 نشرت جريدة "نيويورك تايمز" مقالة ورد فيها أن "المنظمة العالمية لحرية الثقافة" التي تموِّل مجلات عدة مثل "إنكاونتر" الانكليزية و"بروف" الفرنسية و"ديمونات" الألمانية و"حوار" العربية تتلقى دعماً من وكالة الاستخبارات الأميركية CIA. فنزل هذا الخبر عليه كالصاعقة، وعلم أنه خُدع حين اتفق مع الوسطاء العرب للممولين على إصدار "حوار" في بيروت.
كان ذلك من غير علم الشاعر، فكان وقع الصدمة عليه كبيراً، لدرجة أنه فكّر بالانتحار. ولما تأكّد من ذلك أصدر بيانه الشهير في أيّار 1967 معلناً احتجاب المجلّة إلى أن يتوفّر لها تمويل عربي.
في نهاية 1967 غادر توفيق بيروت إلى أمريكا ليحاضِر في جامعة كاليفورنيا في بيركلي وبقي في منصبه الجامعي حتى وفاته بالسكتة القلبية في مطلع عام 1971 عن 47 سنة قضاها في محاولات التجديد، وحمل شعار "الفن للفن" و "الشعر للشعر" الذي سيصب في المحصّلة في مصلحة أفكاره وقضيته، التي ما كنا لنكتب عنه الآن لو لم يكن مساهماً، ولو بطريقة غير مباشرة في الريادة الفلسطينية للمشهد الثقافي العربي.
ولا يخفى أن شاعرنا أصيب بأزمة نفسية وإحباط كبير بعد هذه المعركة التي أدت بالبعض إلى اتهامه بالعمالة للمخابرات المركزية الأمريكية. جعلته يهاجر ليعيش هناك وحيداً، حسب ما أخبرني شقيقه د. أنيس صايغ في بيروت قبل رحيله، على هامش مقابلة مطوّلة أجريتها معه. وذكر لي أنه عندما علم بموت شقيقه، وضع الاحتمال الأكبر أن يكون قد انتحر بسبب أزمته النفسية، ولكنه تأكد أنه أصيب بسكتة قلبية في مصعد المبنى الذي كان يسكن فيه.
إصداراته:
ـ مجلة حوار (1962 ـ 1967)
ـ "ثلاثون قصيدة" ـ مجموعة شعرية عام 1954.
ـ "القصيدة ك"، مجموعة شعرية عام 1960.
ـ "معلقة توفيق صايغ"، مجموعة شعرية عام 1963.
كما أصدر العديد من الترجمات ومنها:
الرباعيات الأربع ل ت. س. إليوت، و50 قصيدة من الشعر الأمريكي.
"أضواء جديدة على جبران"، كتاب عن حياة وأدب جبران خليل جبران.
مُنح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون في سنة 1990.
المصدر: العربي21