استشهد الشاعر الفلسطيني سليم النفار وزوجته وبناته وابنه الوحيد مصطفى، وشقيقه سليم، وأخته وزوجها وأولادها؛ إثر قصف العدو النازي للبناية التي لجأوا إليها في حي النصر في مدينة غزة، يوم الخميس السابع من ديسمبر/كانون الأول، وبقوا تحت الأنقاض خمسة أيام.
وقد نعاه الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين في بيان جاء فيه: «كان سليم مصطفى النفار فارسا بقوس من يقين، لا تلين سهامها ولا تتراقص في مسارها الذي أكدته حنجرة الشعر العالية، كلما تأهبت نابغته أمام الجمع الذي أحبه شاعرا مناضلا، وحضورا بهيا لا تنقصه هيبة، بل يجلله كيِّس القول، ومتزن الحوار، وصادق المشاعر النبيلة المطاف عليها برفع المعنويات الهابط.
سليم النفار وأسرته، وشقيقه سلامة وأسرته نودعهم اليوم بحزن غليظ على النفس، وأسى يجرح الأرواح، ليبقى ابن الشهيد شهيدا، وزوج شهيدة، وأب شهيد، وأب شهيدات، وشقيق شهيد، وعم شهداء». كما نعته اللجنة المركزية لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، بصفته عضو اللجنة المركزية للجبهة، وجاء في بيانها: «إن استشهاد الشاعر سليم النفار يشكل خسارة للثقافة وللمثقفين الفلسطينيين، والذي قدم مساهمات جادة للشعر وللثقافة الوطنية الفلسطينية، ولطالما كان نشاطه الأدبي والبحثي محط تقدير واهتمام، وكانت أعماله الشعرية ومساهماته الأدبية تحفز على الإبداع، وكرّس جل حياته من أجل قضية شعبه وحريته ونضاله».
سيرة ومسيرة
تعود أصول الشاعر سليم مصطفى النفار إلى مدينة يافا، التي هاجرت عائلته منها عام 1948. ولد في 27 أغسطس/آب 1963 في مخيم الشاطئ في مدينة غزة، وانتقل للعيش في الأردن إثر إبعاد الاحتلال لوالده عام 1968، ثم إلى مخيم الرمل بالقرب من مدينة اللاذقية في سوريا بعد أحداث أيلول/سبتمبر 1970. استشهد والده في لبنان عام 1973. تلقى تعليمه المدرسي في مدينة اللاذقية، ودرس الأدب العربي في جامعة تشرين، وأسس هناك ملتقى «أبو سلمى» السنوي للمبدعين الشباب سنة 1986، كَتب الشعر مبكرا، وكان ناشطا سياسيا في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، حتى عودته إلى غزة مع السلطة الوطنية الفلسطينية في عام 1994. وساهم في تأسيس جمعية «الإبداع الثقافي» في غـزة سنة 1997. عمِل مديرا في وزارة الثقافة الفلسطينية، كما كان محررا أدبيا في مجلة «نضال الشعب» ومجلة «الزيتونة» ومجلة «الأفق» ومثّل فلسطين في مهرجانات شعرية في بغداد وجرش والدوحة وأسكتلندا والقاهرة وغيرها. وكان عضوا سابقا في الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين.
إبداعات النفار
أصدر النفار عدة مجموعات شعرية منها: «تداعيات على شرفة الماء» 1996. «سور لها» 1997. «بياض الأسئلة» 2001. «شرف على ذلك المطر» 2004. «حالة وطن وقصائد أخرى» 2014. «الأعمال الشعرية الناجزة» 2016. «حارس الانتظار» 2021. كما أصدر سيرته الذاتية في كتابين: «هذا ما أعنيه» 2004 و«ذاكرة ضيقة على الفرج» 2020. وكتاب نثري بعنوان «غزة» 2014، بالإضافة إلى روايتين: «فوانيس المخيم» 2017 و«ليالي اللاذقية» 2022.
تناول شعره العديد من النقاد والدارسين، وهناك رسالة ماجستير للباحثة دعاء عابد بعنوان «سيمياء الحزن في شعر سليم النفار» بالإضافة إلى عشرات الأبحاث المحكمة، وتناوله في مباحث مختلفة على مستوى فلسطين في الجامعات. كما أقرّت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية قصيدته «يا أحبائي» في منهاج التعليم للصف الثالث الإعدادي.
شهادة إبداعية
في شهادة إبداعية له بعنوان «تجربتي الشعرية.. صيدٌ لا يُشبعُ» يقول: «لا تصدقوا بأن أحدا ما ممن أُبتلي بداء الكتابة، أنه استطاع الإحاطة بكل شيء، أو أنه استطاع كتابة ما يطمح إليه، أو ما يريد تماما، فالكتابة هي كرة النار المتدحرجة التي تسعى دائما لالتهام المزيد من الستائر المحيطة بها، بكَ لإيصال اللهب حيث تنطفئ الفكرة، ويخمد الإحساس بين الضلوع، مُشعلا بياض الورق.
في خضم البحث عن صيدٍ شهي لا يُشبع، تعلمتُ ألا أنحاز لهذه السمكة أو تلك، فالجدوى هي في الصيد، هل تصيد أو لا تصيد، وفي الشعر ليس مهما عندي أن أكتب موزونا أو غير موزون ـ على الرغم من حبي للإيقاع ـ فأنا مع تجاور الأشكال، وأنا منحاز لجمالية النص ولمحموله الذي يستطيع إيصال لسعة للمتلقي. والنص أيا كان شكله إذا لم يستطع إيصال لسعة، سيبقى عاجزا وفاشلا عن تسميته صيدا شهيا لا يُشبع».
في لقاء معه عام 2020، قال النفار: «إن القصيدة الشهية لم أصطدها بعد، والشعر يجب أن يحمل رسالة، لتصل إلى المتلقي، وإنه منحاز لجمالية النص أيا كان شكله». وأضاف «إن ذهابه لكتابة السرد يعود إلى أن هناك تفاصيل كثيرة في الحياة الفلسطينية لا يتسع الشعر لها».
مختارات شعرية
من قصيدة بعنوان «لماذا تذهبين الآن؟» يعاتب أمه المتوفاة:
«وحيدا
أعاني ندوبا على سطحِ حلمي
أُعرّيْ جروحي لملحِ الليالي
أُضيء الوقتَ في شمسنا الخافتةْ
لعلَّ الحبَّ يُسعفنا
لعلَّ الشعر ينقذنا
في انفضاض القافلةْ
وحيدا
تركتِ الفتى في الليالي الباردة»
ومن قصيدة «شهيد» نقتطف:
«من شقوقٍ في جدارِ الحكايةْ؛
ضوؤهُ صاعدٌ،
لم يُهادن عتمة عابرةْ.
أترعَ القلبَ بشمسٍ؛
هنا لا تُقايضْ حلمها، ببقايا الغبارْ
صارخا كان انفجارُ الحنينْ
عارفا دربهُ
لم يُغيِّرْ عزفهُ ذاكَ القديمْ»
وفي قصيدة «ما لم يقُله طالعُ الأشياء» يقول:
«يا أيُّها الوطنُ المُشتتُ في الصَّغَارْ
ما حانَ أن تعلو،
ويُعليكَ النَّهارْ؟!
إنَّا مللنا القهرَ،
على دوامِ الانكسارْ
فانفضْ رداءَ الذلِّ،
لو ضاقتْ قفارْ
أنتَ الذي أعطيتَ معنى في بطولاتٍ،
على رحبِ المدارْ»
ويخاطب أباه في قصيدة «هُزَّها يا أبي»:
«هُزَّها يا أبيْ
من فسادِ البلاغةْ
وحرّرْ ثغورَ الغمامْ
من بروقٍ عجافْ
ليسَ ليْ نزفها في خبيصِ الدّوالْ
ليسَ ليْ غيرُ وردٍ
حرونٍ يُجافي الهباءْ»
ولغزة كل الحب والفخار والمجد، يقول:
«ولدٌ يتمنطقُ بالتاريخْ
لمْ يقرأهُ كثيرا، لكنّهُ يدرك فاصلة الوقتِ
حينما تعوي كلُّ ذئابِ الشّرِّ
يرشقُ وهجهُ في صدر الريح، تُضيءُ قناديلَ شموخْ
غزة
لونُ اللوحاتِ الناقص في فنِّ التشكيلِ العصريِّ
إيقاعُ الشعر الغاضبْ
لا يشبه قول العربي الغائبْ
فجرٌ مغسولٌ،
مكفولٌ بدم الشّهداءْ
فتعلّمْ يا زمن الرّدةْ
كيفَ تصوغُ الوقتَ؛ بحدِّ الناّرِ وأشرعةِ العزّةْ
هذا زمنٌ لا يشبهكمْ
فلتخلوا كلَّ مقاعدكمْ
إنَّها غزة
بجدارةِ الرّعدِ والوعد تُعلي جدارتها»
مختارات نثرية
في نص «مُرافعة عن الحياة» يخاطب صديقه الشاعر منذر مصري:
«ضجرنا يا منذر من رداءتنا، ومن أحلامنا الكبيرة، فهلْ من متسعٍ صغير للحياة؟
الحياة البسيطة، كما عاشتها جداتنا في ساحل البلاد الممتدّ، بعضُ أشياء صغيرة، وكرامة لا يفتقدها الطامحون.. لا نريد دولا يقودها الجنرالات العتيدة، قساةٌ علينا، صغارٌ في حضرة أربابهم.
ضجرنا يا صديقي من لوثة الحداثة الفرنسية والأمريكية والروسية.. نريد أصالتنا، صبحنا العتيق؛ فهلْ يأتي من غياهب هذا الجنون؟»
وفي نص بعنوان «ثمة طريق» يقول:
«هلْ أدركتَ ما مضى، أيّها الفتى الموَّزعُ في صفحات التاريخ:
واحدةٌ صفراءَ كلون الصّبح، المُغبرّ بريح الحكام الفاشلين، واحدةٌ حمراءَ كلون الدَّمِ، المسفوحِ على جنباتِ القضايا الخاسرة، من قُضاتها الفاسدين، الغارقينَ بتأويل الخسارة واحدةٌ بلا لونٍ، يكتبها الطغاةُ كيفما شاءوا، مُبرّرين سطوتهم على الآخرين، لاحتكار الفرح على طريقتهم، يخفونه في أزقتهم البعيدة.
هلْ أدركتَ أيّها الفتى أنْ لا صفحةَ لكَ، غير ما يخُطه مداد قلبكَ أنتَ؟
لا تكترث بكلِّ ما يُثارُ حولكَ، حصّن قلاعكَ، أعلي شراعكَ، بحبٍّ لا ينكسر، فإنَّه دربك الوحيد للحفاظ على الحياة، حياتك أنتَ، لا حياتهم».