نابلس.. مدينة المساجد
اشتهرت مدينة نابلس على مدار التاريخ بمساجدها، وعُرفت بجوامعها التي تجاوز عددها المائة. يأسر الزائر لمدينة نابلس صوتُ الأذان المنطلق من مساجدها القديمة التي تعلو في منحنياتها وزواياها العتيقة، ولا يختلف اثنان بأن نابلس مدينة المساجد في فلسطين.
تقع مساجد نابلس التاريخية في بلدتها القديمة ويبلغ عددها عشرة مساجد، وقد بدأ إنشاء المساجد منذ الفتح الإسلامي الأول للمدينة في القرن السابع الميلادي، ويُعتقد أن أول مسجد أقيم في تلك الفترة هو مسجد "الساطون".
تاريخ عريق
ومن أشهر تلك المساجد وأهمها "الجامع الصلاحي الكبير"، الذي يقع في شرق بلدتها القديمة، وفيه ثلاثة أروقة تضفي على الجو وقارا في قبابها المقوسة، التي تُفتح على بعضها البعض، وتستند على دعائم، وفي زواياه أعمدة أسطوانية تعلوها تيجان مزخرفة، بينما يتشكل سقف قاعة الصلاة من سبعة عقود متقاطعة في الجهة الشرقية منه.
فما أن تطأ قدماك درجات المسجد الصلاحي الكبير حتى تستقبلك طمأنينة كبيرة تحملك إلى الداخل، وتطوف بك بين أرجائه الفسيحة، تطل بك على ساحة مكشوفة تتوسطها بركة ماء، أما بوابته الرئيسة فتزدان بالكرنيش الذي يزخرف أعمدته الرخامية، وهي مؤلفة من خمسة أقواس؛ الواحد ضمن الآخر، والقوس الخارجي مزين بنقوش على الطريقة الرومانية.
ويُعرف تاريخيا أن الجامع الصلاحي الكبير كان في الأصل كنيسة بيزنطية، تعرضت للهدم والبناء عدة مرات على فترات متلاحقة من التاريخ، حتى كان آخرها الفترة الصليبية. وفي زمن الفاتح صلاح الدين الأيوبي، حول المبنى إلى مسجد، وبنيت القبة والمحاريب، وتأخذ مئذنة الجامع شكلا ثُمانيا، وتقع في وسط الواجهة الشمالية فوق المدخل.
وقد وصفه الرحالة ابن بطوطة عندما زار مدينة نابلس في العام 775هـ/1355م قائلا: "والمسجد الجامع في نهاية من الإتقان والحسن، وفي وسطه بركة ماء عذب".
وهناك نقش موجود في الجهة الجنوبية بعد المدخل الجنوبي، ويستدل منه على التعمير الذي أجري في زمن سليمان باشا، سنة 1736م :"إذا ما جيت نابلسا فبادر.. وعرج نحو جامعها الكبير.. تجده عامرا يدعو بخير.. وتأييد لمولانا الوزير.. سليمان المشير أمير حج.. حباه الله بالأجر الكثير".
وعلى بعد نحو مائة وخمسين مترا من الجامع الكبير يقع مسجد "النصر"، الذي بات رمزا للمدينة بقبته الخضراء المرتفعة وضخامة مبناه، وأمام الجامع ساحة كبيرة فيها منارة تذكارية عثمانية، وفي قمتها ساعة كبيرة، وإلى جانبه سبيل للمياه، وفي أسفله من الزاوية الجنوبية الشرقية هناك أضرحة.
وقد افتتح المسجد على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي عام 583هـ/1187م، وكان في الأصل كنيسة، وإلى جواره أضرحة تعود لآل فرّوخ، ويتكون من طابقين؛ أرضي فيه محلات تجارية، والطابق العلوي فيه قاعة الصلاة التي تتميز بسقفها المرتفع، والجسور الإسمنتية بأشكال مستقيمة ودائرية.
تحفة معمارية
وعلى بعد خطوات قريبة يقع "جامع البيك" وسط البلدة القديمة، ويتكون من قاعة ضخمة للصلاة، وفيه عدد كبير من الدعامات المربعة والمستطيلة، ويوجد في القسم الجنوبي الغربي دعامة دائرية واحدة من الرخام البازلتي، ويعلوها تاج عمود ضخم -حسب ما وصفه المهندس نصير عرفات في كتابه "نابلس تاريخ الحضارات"- وتنتصب أربع دعامات مربعة في وسط القاعة، وتعلوها قبة مرتكزة على رقبة دائرية الشكل، ويتشكل السقف من عقود متقاطعة. أما مئذنته فهي ثُمانية الأضلاع، تعلوها شرفة حجرية.
يحفظ منصور عاشور؛ المسؤول عن رعاية المسجد، وجوه الزائرين، يتحدث معهم عن المكان وكأنه مرشد سياحي، ويروي الأحداث التي شهدها الجامع خلال انتفاضة الأقصى، حيث تحول إلى مشفى ميداني لعلاج الجرحى والمصابين الذين أصابتهم نيران القصف الإسرائيلي.
ويشير: "لم نكن قادرين على تخطي عتبة الجامع من شدة القصف، كان الجرحى يصلون تباعا إلى المسجد، الذي قسّم إلى أقسام مختلفة؛ منها العناية المركزة، حيث أجرى الأطباء عمليات جراحية طارئة أنقذوا فيها حياة العديد من المواطنين".
ويتابع منصور حديثه عن الجامع الذي أعيد ترميمه عام 2010، ويقول إن سبب تسميته بـ"البيك" يعود إلى البيك طوقان، أحد وجهاء البلد، الذي بناه. ويودعنا عند أحد أبوابه ذات الزجاج الملون بابتسامة نخرج فيها لنتوجه إلى تحفة إسلامية أخرى.
إلى "جامع الحنبلي"؛ ندخل من أبوابه الخشبية الرائعة التي تزينها أشكال هندسية غاية في الدقة والهيبة، نحط رحالنا إيذانا لصلاة الظهر، يعجّ السوق بالحركة من الخارج، وفي الداخل سكينة ووقار كبيران. قاعة الصلاة اتخذت شكلا مستطيلا، وفيها ثلاثة أروقة وتحيطها أعمدة أسطوانية رخامية مرتبة في صفين متوازيين، وتعلوها تيجان كورنيثية (نسبة إلى أسلوب نحت الحجارة في مدينة كورنيث اليونانية التاريخية)، وفوق المدخل الشمالي مئذنة مرتفعة دائرية.
وهناك نقش فوق المدخل الجنوبي الموجود في قاعة الصلاة، يشير إلى أن السلطان سليمان القانوني قد ساهم في تعمير المسجد سنة 933هـ/1527م.
وللجامع الحنبلي مكانة كبيرة في قلوب النابلسيين، وله قدسية خاصة، حيث يحفظ في وعاء زجاجي ثلاث شعرات للنبي عليه الصلاة والسلام، أحضرت من إسطنبول إلى نابلس، وجرت العادة أن يتبرك المصلون بها بعد صلاتي الظهر والعصر في السابع والعشرين من رمضان من كل عام.
وحسب المهندس عرفات فإن المسجد الحنبلي بُني إبان فتح عمرو بن العاص لفلسطين، وجدد في فترة المماليك الذين دام حكمهم فيها نحو 256 سنة، مستخدمين حجارة بيزنطية ورومانية، وجدد في العهد العثماني.
فترات متعاقبة
في الطرف الشمالي الشرقي للبلدة القديمة، يقع "جامع المساكين"، وهو في الأصل مشفى بُني زمن الفرنجة، وحوله نائب السلطنة المملوكي في الشام، أبو سعيد تنكز الناصري، سنة 1342م إلى مسجد.
أما "جامع الأنبياء"، الذي يقع في الطرف الشمالي الشرقي لحارة الحبلة، فيتكون من قاعة أرضية للصلاة، وفيه غرفتان في إحداهما ضريح ضخم، يقال إنه يضم رفات عدد من أنبياء بني إسرائيل عقب سيدنا يعقوب عليه السلام، ولهذا سمي بهذا الاسم، ويذكر نقش حجري يعلو مدخله فترة بنائه في العام 1176هـ/1762م.
وفي حارة القريون تظهر مئذنة "مسجد التينة"، الذي يعود إلى الفترة التركية، وسمي بذلك كما يقال نسبة إلى شجرة تين كانت في المكان، وهناك نقش حجري أيضا يذكر تاريخ بنائه عام 1889م، وما يميزه هو مئذنته ذات الأضلاع الثمانية، وفوقها قبة بصلية الشكل.
وتضم حارة الياسمينة أقدم مسجد حسب الروايات التاريخية، حيث يقع مسجد "الساطون"، ويقال إنه أول مسجد بُني بعد الفتح الإسلامي للمدينة، ويتخذ شكلا مستطيلا، وتتكون قاعة الصلاة من رواقين اثنين، وتعلو المسجد مئذنة يبلغ عدد أضلاعها اثني عشر ضلعا، ويعود تاريخها إلى 1515م.
خرجنا من البلدة القديمة نحو طرفها الغربي لنجد مسجد الخضر الذي اتخذ بناؤه شكلا مربعا، ويرجع سبب تسميته إلى زاوية دينية كانت موجودة مكانه، وحسب الروايات فهو ينسب إلى الخضر عليه السلام، وكان قد مر بالمنطقة وشرب من عين ماء موجودة في المكان، وأقيمت بعدها زاوية له.
وقد بنى الجامع بدوي وأمين عاشور سنة 1307هـ/1889م، وهو ما يذكره نقش حجري موجود في المكان، وبالقرب منه كنيسة، وهو ما يدلل على التسامح الديني في مدينة نابلس - كما أشار الحاج وليد الخزندار، الذي كان يتكئ على عصاه وهو يقرأ القرآن الكريم في إحدى زوايا المسجد.
الجامع من الداخل له محراب جميل، وأعمدة رخامية أسطوانية الشكل، وفيه ساعة خشبية قديمة لها رقاص، أما مئذنته فهي ثــُمانية بنيت سنة 1311هـ.
أما "جامع الخضراء"، الذي كان مسك ختام رحلتنا، حيث نزلنا فيه لصلاة العصر، فتتوسط ساحته بركة رخامية قديمة، وفيه ساحة مكشوفة، وهناك قبور تعود لشهداء منهم من آل شرف، القائمين على المكان.
ويذكر الشيخ سعد شرف أن مفتاح المسجد حتى فترة متأخرة كان مع عائلته التي كانت تقوم على رعايته بناءً على تكليف السلطنة العثمانية ، وعُرف المسجد بأنه مركز للمتصوفين، فكان الشيخ علي شرف، شيخ الطريقة الرفاعية، يستقبل المريدين إليه في مسجد الخضراء.
ويعود البناء حسب الروايات التاريخية إلى بناء كنسي، ثم أعاد المماليك بناءه مسجدا، وتحديدا في عهد السلطان سيف الدين قلاوون، ومئذنته مربعة الشكل، وتزدان أبوابه الخشبية بالزخارف والأشكال الهندسية الجميلة، ومحرابه متميز من حيث اتساعه والنقوش الذي تعلوه.
وللجامع تسمية أخرى، إذ يعرف باسم "جامع الحزن" نسبة إلى وجود مغارة يقال حسب الروايات المتناقلة إن سيدنا يعقوب حزن فيها على ابنه يوسف عليه السلام.
قاربت الشمس على الغروب، ومن أعلى جبل جرزيم، حيث انتهت رحلتنا، تلألأت أشعة شمس الغروب البرتقالية على قباب الجوامع التي تحتضنها البلدة القديمة، تتوحد جميعها برفع أذان المغرب، لتشكل لوحة روحانية جميلة.
وكما وصفها الرحالة الدمشقي: "نابلس مدينة خصبة، نزهة بين جبلين متسعة ما بينهما، ذات مياه جارية، وحمامات طبية، وجامع حسن، تقام فيه الصلوات، وتكثر قراءة القرآن فيه ليلا ونهارا، والاشتغال فيه كثير، وهي كأنها قصر في بستان".
المصدر: فلسطينيو 48