كتب ترشيحا:
نصوص ذات شعرية عالية..
في الطريق الى ترشيحا وحديقة مسجد مخيم النيرب..
الكتاب: 88..
المؤلف: ابن البلد خالد احمد علي ابراهيم درويش..
الناشر: اتحاد الكتاب الفلسطينيين..
تاريخ النشر: 1997..
كتب الشاعر السوري هادي دانيال:
عندما أهداني الشاعر خالد درويش في بغداد نسخة من كتابه الذي نحن بصدده، لَفَتني بدءاً "عنوانه" الذي هو مجرد رقم!. والرقم هنا (88) يدل على عدد النصوص التي يتضمنها الكتاب، كما يدل على عدد صفحاته تقريباً، فكل نص يحتل صفحة واحدة، ويحمل بدوره رقماً متسلسلاً كناية عن عنوان له!. وفي صفحة واحدة تتراص هذه الأرقام في أربعة أعمدة مشيرة إلى (عناوين) هذه النصوص والصفحات التي تنزَّلت فيها..
تلك العناوين الرقمية أطفأت عندي مؤقتاً الرغبة في قراءة الكتاب المهدى إليّ، ليعيدني الفضول بعد عقد من السنوات ونيّف إلى تصفح الكتاب مجدداً في تونس، فكانت المفاجأة المغايرة..
فالنصوص على عكس ما أوْحت به العناوين، تنبض شعرية تختلف عما عداها في مدونة الشعر الفلسطيني، فهي حسب قراءة أولى، يوميات شاعر أو كما يسميها منجزها "حالات" كتبها في دمشق وصوفيا ورام الله على مدى عشرين عاماً في أوقات مختلفة (صباحاً وظهراً ومساءً وعند منتصف الليل) من الأيام الثمانية والثمانين، التي كتب خلالها 88 نصاً وقع أطولها (44) في 18 سطراً، وأقصرها (78) في سطر واحد من كلمتين فقط!، لتصدر جميعها سنة 1997 في القدس، ضمن منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين..
ورغم أن الكتاب الذي يقع في حوالي 96 صفحة من القطع المتوسط يشير في صفحته الأخيرة إلى أنه "صدر للشاعر: الجبل، بيروت ــ 1979، الوقائع، دمشق ــ1980، أسباب، دمشق ــ 1981"، وجدتني مضطراً لتفحّص النصوص الثمانية والثمانين أجناسياً، خاصة وأنني لم أطلع على الكتب المشار إليها سابقاً..
فهذه النصوص الموزّعة بصرياً على هيئة قصائد، تؤكد قراءتنا الأولى لها أنها مجردة من الوزن والقافية، باستثناء النصين (68) و(73) اللذين حضرت القافية فيهما بقوة:
"كلما اقتربنا
من الماء
وجدناه سراباً
وكلما عانقتني أكثر
ازددت اغتراباً." ص68..
"يقتلني هابيل
في بيت إيل،
وتدعوني مريم
إلى عرسها
في الجليل" ص73..
فإذا كان النص الأول يؤكد اغتراب الشاعر وجودياً، فإننا نلاحظ في الثاني تناصّاً مع الخطاب الديني الموروث يقوم على المشاكسة وقلب المفاهيم التقليدية بتحويل هابيل الضحية إلى قاتل في المكان الفلسطيني مشيراً إلى الضحية اليهودية، التي أصبحت جلاداً، وبتقديم مريم العذراء بصفتها عروساً أي بصدد أن تصبح ثيباً في المكان الفلسطيني أيضا.ً.
وفي سياق الاختلاف، على مستوى الرؤية والدلالة عن مدوّنة الشعر الفلسطيني المعاصر يقول الشاعر:
"سئمت الحديث في الموت والحرية
سأتحدث عن ضفائرك
المبللة بمطر أكتوبر الدافئ.." ص16..
"والتي أحبها
ليست الأرض؛
إنها جسد يبحث عن سماوات.
اسمها إيفا
وتشبه أمي". ص36..
لكنه لم يفلت من تداخل المرأة والوطن على المستوى الرمزي في أكثر من نص، كأن نقرأ:
"حين تعانقينني
أشم في عبيركِ
رائحة سفري
إلى مساء
ستلتهمه الحرائق" ص74..
ولئن بَدت لنا نصوص خالد درويش بسيطة في مفرداتها وتراكيبها اللغوية، وغنائية في نبرتها ومناخها العام، إلا أنها، بما توفرت عليه من مفارقات وطباق وقفلة مفاجئة ودعابة، فضلاً عن غنائية الألم وغنائية القلق والشك، منحت متلقيها فرصة الاستمتاع بشعرية عالية تعززت أكثر بنقل الصميمي إلى التجربة الشعرية، بالرغم مما تخللها من شذرات معزولة وسرديات وحواريات أقرب إلى القصة القصيرة جداً كادت تشوش عليها أجناسياً
بل إن معظم النصوص التي قامت على كلية التأثير والفجائية والكثافة أهّلها لأن تكون قصائد نثر حيث "القصيدة عالم مسوّر، مغلق على نفسه ويكتفي بذاته، وهي في الوقت نفسه كتلة مشعّة مشحونة، بحجم صغير، بلا نهاية من الإيحاءات القادرة على أن تهز كياننا من أعماقه" حسب رأي سوزان برنار.
من ناحية أخرى يتميز عالم خالد درويش الشعري بمواضيع تمثل الطبيعة مرجعيتها الأساس، ويتم أخذها عن طريق التجربة المباشرة كما يؤكد الشاعر في الصفحة 89، تحت عنوان (مصادر الكتاب) حيث نقرأ هنا:
"الميناء عند الفجر، الطريق إلى ترشيحا، عبّاد الشمس من زجاج القطار، حديقة مسجد المخيم، ظلال الدالية، بحر اللاذقية عصراً، صباحات بيرزيت، الغروب في صردا"..الخ..
وكذلك على صعيد البناء يمكننا ملاحظة تجاور الصور المتباينة، واستخدام المجاز الدفين، والبساطة الخادعة التي تخفي معنى عميقاً.
هذا كله، فضلاً عن دلالات المكان والزمان ومحاولة خلوّ النص من المشاعر الصريحة، يجعلنا إزاء أرض خصبة لإنبات قصائد الهايكو، لولا حضور ذات الشاعر حضوراً فاضحاً أحياناً وربما عن غير قصد، وكنتيجة للمقدمات الآنفة، توصّل الشاعر إلى امتاعنا بقصيدة "هايكو" نموذجية، تلك التي تحمل رقم (85):
"على الرابية
التي جفّت أعشابها،
في ضوء القمر
اللاهي بين سحابتين
أسمع أغانيك
وهي تنبعث من التراب" ص85
إننا إزاء تجربة تكتب بإحساس مرهف وطزاجة تقطع نهائياً مع نمطية المدوّنة الشعرية الفلسطينية، وتضيف إليها، لكنها تتقاطع أحياناً مع شعرية الماغوط وأبي عفش السوريين دون أن تتخلى للحظة عن خصوصيتها، وأنا أعجب حقاً من انزوائها بعيداً عن ضجيج المشهد الشعري الفلسطيني رغم انخراط صاحبها وظيفياً في مؤسسات منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينيتين..
وربما يكون ذا دلالة ما، أن يعبر الشاعر عن فلسطينيته المنفيّة بهذا الغموض الواضح:
"أنا وأنت
غريبان
في وطن كان لنا" ص58
كما يعبّر عن انتمائه المزدوج إلى فلسطين وسورية بهذا الوضوح المكثف:
"على شاطئ اللاذقية
اشتقت لحيفا
وفي القدس...
افتقدت دمشق." ص54..(نقلا عن جريدة "الأيام" الصادرة في رام الله بتاريخ 3 تشرين الثاني 2009 )..