الطريق الى كفر عانة * فوز الدين البسومي
احس صاحبنا وهو يستمع الى الاديبة مها المبيضين وهي تتحدث بشيء موجز من روايتها الجديدة «خيط الرشق». ان العبارات التي تخرج من فمها تستفزه حينا وتستوقفه حينا اخر.. فالرواية بداية ونهاية تتحدث عن ذلك الذي ولد في قرية كفرعانة القريبة من يافا.. كان الرجل يسرد قصة ولادته.. وعيشه ومرحه الطفولي.. فتبدو الرواية وكأنها تتحدث عن جيل كامل عاش في كفرعانة.. ومحيطها.
ومن اول كلمة نطقت بها الكاتبة وهي تتحدث في حشد من الشباب والمثقفين قفز الى ذاكرة صاحبنا ما قد يكون بطل الرواية .. او غيره يمثل نموذجا لشاعر قضى بعيدا عن كفرعانة هو محمد القيسي .. ذلك لان محمد القيسي كان دوما يتغنى بكفرعانة شعرا ونثرا..
وهو حين التقى بصاحبنا لأول مرة عام 1969 دعا صاحبنا الى جلسة على شرفة مقهى الجامعة العربية وحول طاولة صغيرة تحلق حولها صاحبنا ومحمد القيسي والشاعر احمد دحبور والشاعر علي فودة والقاص خليل السواحري حيث راح محمد القيسي يتغنى شعرا بكفرعانة من خلال قصائده المنشورة في ديوانه «راية في الريح» كان محمد يتحدث بألق عن كفرعانة وكان صوته خلال حديثه يعلو حينا ويهبط حينا مع احمرار في وجهه.. وانتفاخ اوداجه ودموع حرّى تسح على خديه شوقا لكفرعانة وحزنا على ايامها ..
وحين قرأ محمد ذات مرة حكاية لصاحبنا يروي فيها رحلة قام بها الى قريتي الخيرية والعباسية - قرب يافا - عاتب محمد صاحبنا وهو يقول له برفق: يا رجل تزور الخيرية.. ثم العباسية وتتجاهل كفرعانة.. والتي لو كنت زرتها لوجدتها لا تقل جمالا عن القرى الاخرى..
وظل محمد القيسي يتغنى بكفرعانة الى ما قبل وفاته بأسابيع حين التقى بصاحبنا في المركز الفني للدستور ووضع يده على كتف صاحبنا وهو يقول: ما زالت كفرعانة هناك تنتظر ولا ادري متى سأعود اليها ، علما بأني اعرف الطريق الى كفرعانة.. فهو طريق جميل تحيط به بيارات البرتقال وفي مرابعها تجول الطيور المهاجرة.. وعلى اغصان اشجار كرومها تتقافز البلابل والعصافير وتغرد الحساسين ، حتى اذا ما انقضت اسابيع حتى جاء الناعي يحمل خبر وفاة محمد القيسي.
ومن بعد محمد القيسي بات صاحبنا يتلقى العتب من السيدة ام كرم مسؤولة الصف الضوئي الصباحي في الدستور تقول له معاتبة.. تكتب عن الخيرية والعباسية والسافرية ويازور وسلمة.. وبيت دجن وتتجاهل كفرعانة.. ما بك يا رجل اين هي ذاكرتك.. وها هي الاديبة مهى عبدالقادر المبيضين تقف متحدثة عن روايتها «خيط الرشق» فتقول على امتداد الجهة الشرقية من يافا.. وعلى بعد احد عشر كيلومترا مروروا بالعباسية تمتد كفرعانة تلك القرية الدافئة البسيطة المحاطة بالحمضيات والاشجار الجميلة.
تخيل صاحبنا لوهلة ، ان الكلام انما يأتي على لسان وقلم محمد القيسي.. فعن مثل هذا وأكثر كان دوما محمد القيسي يتغنى.. وينظم القصيد .. ويحلق في الفضاء.. وكأنه يحمل على راحتيه كفرعانة.. او كأنه كما صاحبنا يسافر يوميا عبر خياله واحلامه الى كفر عانة او الرملة ويعود هو وصاحبنا وقد ارتوى كل منهما بما شاهده اي منهما.. فيما كفرعانة تنتظر ان تمسح من الوجود او يتم تغيير اسمها انطلاقا من مشروع عبرانية فلسطين الذي يواجهه العرب اليوم بمشاريع تفاوضية قد لا تعيد اصلاح ما انكسر.. وما سلب.. فيما الطريق الى كفرعانة في الذاكرة ما زال يحفظه سكانها المهجرين ومن مروا بها.