عكا صخرة الحق الصلبة
بقلم: ياسـر عـلي
في الثامن عشرمن أيار من العام 1280م، حرر الظاهر بيبرس مدينة عكا من الاحتلال الصليبي، معلناً نهاية الحروب الصليبية التي دامت 194 سنة، فهي المدينة التي احتُلّت في بداية الحروب الصليبية وتحررت بنهايتها، ولم يحدث أن تحررت خلالها إلا على يد صلاح الدين بعد تحرير القدس لأربع سنوات، ثم عاد إليها الصليبيون وذبحوا فيها ثلاثة آلاف رجل.
ومن عجائب القدر أن سقوطها طابق استعادتها: فقد سقطت في السابع عشر من جمادى الأولى في الساعة الثالثة، تحررت في اليوم والساعة نفسها. وردّ السلطان خليل بن قلاوون بالذبح نفسه الذي ارتكبه الصليبيون قبل ذلك. ثم شرع في تدميرها كي لا يستعملها الصليبيون مرة أخرى كرأس حربة في احتلالهم.
وكانت هذه المدينة بمثابة الجندي المجهول في كافة الحروب في الشرق الأوسط، حيث استعصت على كبار الفاتحين في الغرب.
أصل الحكاية:
هذه المدينة التي أسسها الفينيقيون، التي يعني اسمها (الرمل الحار)، حقق علماء الآثار من عمرها حتى الآن ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. ويكاد من يقف على شاطئ الحدود أن يراها، فهي تبعد عنها 17 كلم عن الناقورة فقط لا غير.
ونظراً لكونها مدينة ساحلية يتقن أهلها صناعة السفن، فقد أسس المسلمون فيها بعد فتحها عام 15 هـ. «دار صناعة السفن الحربية في عكا»، ومنها انطلقت أولى الغزوات البحرية إلى جزيرة قبرص عام 28 هـ. وقد أمدت هذه الدار جيش معاوية بألف وسبعمائة سفينة حربية. فكانت عكا في المرتبة الثانية بعد الإسكندرية في هذه الصناعة.
وما حصل بالحروب الصليبية شرحناه في المقدمة، أما ما حدث مع نابليون فقد كان دور عكا هو الأبرز في الحملة الفرنسية.
فحملة نابليون في الشرق بدأت بعد مصر باحتلال فلسطين، فوجه النداء إلى يهود العالم للانضمام إليه من أجل إعادة مجد «إسرائيل» في القدس، وتوالى سقوط المدن الفلسطينية بيده واستمر ذلك حتى وصل إلى عكا فوقف على أسوارها. وعندما وصلت الأنباء إلى أحمد باشا الجزار، باشر بزيادة التحصينات في المدينة وبدأت الحصار في 20 آذار 1799، واستمر الكرّ والفرّ بين الفريقين ثلاثة وستين يوماً، يئس بعدها نابليون من دخولها وحطمت أحلامه في الاستيلاء على الشرق، ووقف على ظهر سفينته قرب ثغرة في السور أحدثتها مدافعه ورمى قبعته داخل السور وقال: يكفي أن قبعتي دخلتك يا عكا.. وداعاً لا لقاء بعده!. (هذه إحدى القصص المروية عن حصار عكا..).
ولاية عكا:
دام حكم أحمد باشا الجزار بعد ذلك ثلاثين عاماً، واتسعت رقعة ولايته حتى امتدّت إلى لبنان (لم يكن موجوداً في ذلك الزمن)، فكانت صور وصيدا تابعتين لولاية عكا، ويروي شهود عيان أن جداراَ قديماً وكبيراً نسبياً، مازال قائماً في منطقة السعديات (جنوب بيروت) يشكل الحدود الجغرافية لولاية عكا.
فقد كانت المدن اللبنانية الجنوبية أقرب جغرافياً وإدارياً إلى عكا من القدس، وقد استمرت ولاية عكا بهذا الحجم حتى الحرب العالمية الأولى وتقسيمات سايكس بيكو، فاقتصر قضاء عكا على محيطها من القرى حتى الحدود اللبنانية فكان في القضاء: سحماتا (القريبة إلى الحدود حوالي 7 كلم) ، شعب (التي أقام بها الثوار حامية شهيرة للدفاع أثناء النكبة)، سخنين الشهيرة بأحداث يوم الأرض، ميعار، الكابري، مجد الكروم، البروة، الزيب، عمقا، طربيخا (من القرى السبع).
ويروي الكثيرون قبل النكبة عام 1948، أن الجنيه الفلسطيني كان يستعمل في مدينة صيدا في المعاملات اليومية، مثلما يستعمل الدولار فيها اليوم. وأن الطرقات في جبل عامل من النبطية جنوباً كانت معبدة، في حين كانت الطرقات شمالاً باتجاه لبنان غير معبدة، مما يسهل توجه أبناء الجنوب إلى فلسطين للعمل منه إلى لبنان.
بل إن أحد الشعراء العامليين أخبرني أن وثيقة زواج والدته حرر المهر فيها بالجنيهات الفلسطينية.
الاحتلال الإنجليزي:
ليس غريباً على عكا أن تنطلق المقاومة المسلحة منها إثر حادث عام 1919 أي قبل مضي سنة على دخول البريطانيين إلى البلاد العربية، وذلك عندما حاول بعض الجنود السكارى التعدي على إحدى السيدات فانبرى لهم شباب عكا ولقنوهم درساً قاسياً قامت على أثره انتفاضة شعبية سقط فيها عشرات الجرحى العرب.
وليس أدل على أهمية عكا في الجهاد الفلسطيني أكثر من إعدام المجاهدين الثلاثة في سجن عكا المركزي: عطا الزير، محمد جمجوم وفؤاد حجازي.
إذاً كانت عكا أول المقاتلين وآخر الصامدين، وهناك قصص تروى عن الحصار الذي تعرضت له أثناء الحروب الصليبية تثبت أن صمودها كان أسطورياً وما كانت لتسقط لولا الخديعة.
المصدر: لاجئ نت