الله أكبر.. حي على الصلاة .. حي على الفلاح".. نداء الصلاة الذي غاب 61 عاما عن الفلسطينيين في قرية عكبرة داخل أراضي 48، عاد إليهم مؤخرا من داخل أول مسجد يقام في القرية منذ أن هدم الإسرائيليون مسجدها القديم في نكبة 1948، وليبشر بعودة أجواء الإيمان لشباب القرية الذي "تأثر بشدة بالتقاليد اليهودية المحيطة به".
وببناء من الحجر الأبيض المنقوش.. وبأقواس تعلو نوافذه وأبوابه.. وبقبة صفراء ذهبية تشع نورا في أرجاء المكان، ارتسمت ملامح الصورة لـ"مسجد الهدى" في قرية عكبرة المهجرة إلى الجنوب من مدينة صفد شمال إسرائيل.و مع ارتفاع صوت المؤذن صادحا بنداء الحق مؤخرا تلألأت إشراقة الأمل والفرحة على وجوه سكان القرية الذين كانوا يتكبدون عناء السفر إلى القرى المجاورة طيلة الأعوام الـ61 الماضية لأداء صلاة الجمعة وبعض الصلوات العادية، بينما كان يضطر الكبار للصلاة في بيوتهم، والحسرة تملأ قلوبهم على حرمانهم من فضائل الصلاة في المسجد.وكانت الإذاعة والتليفزيون هما المصدر الوحيد لمعرفة أوقات الصلاة في القرية التي حرمها الاحتلال كذلك -ولا يزال- من بناء أي مدرسة ترحم أبناءها من عناء قطع الكيلومترات إلى مدارس المناطق المجاورة.وارتفع الأذان لأول مرة في مايو الماضي، وتأخر وصول هذا الخبر الهام إلى وسائل الإعلام منذ ذلك الوقت يكشف العزلة التي يفرضها الاحتلال على القرية؛ فهي تقع في منطقة صفد التي أصبحت يهودية بالكامل، وأضحى سكان القرية أقلية عربية تفتقد إلى وسائل العيش الكريم التي تؤهلها للتواصل السريع مع العالم الخارجي.
ومن اللافت في ذلك أن كثيرا من فلسطينيي 48 في مناطق أخرى من )إسرائيل( استغربوا من أن هناك فلسطينيين يعيشون في تلك القرية، التي ظنوا أنها أصبحت يهودية بالكامل منذ أجبر الاحتلال سكانها الأصليين على الرحيل في أجواء النكبة.
يقول غازي حليحل "أبو عبد الله" (54 عاما)، عضو جمعية الهدى التي تدير شئون قرية عكبرة، ورئيس اللجنة التي تشرف على بناء المسجد، لم تكن الكلمات لتسعفه في الحديث عن المشوار الذي امتد ما يزيد عن 25 عاما حتى بدأ البناء بالفعل؛ وذلك بسبب العراقيل التي ألقاها الاحتلال في طريقهم للحيلولة دون تحقيق أملهم.
يقول أبو عبد الله لـ"إسلام أون لاين" عن بعض ملامح المعاناة الممزوجة بالصبر والمصابرة: "منذ عام 88 تم تشكيل لجنة بناء المسجد، وبعدها بعشرة أعوام كاملة أي في عام 98 فقط تمت الموافقة على اللجنة وأعضائها من قبل بلدية صفد التي يديرها الاحتلال، وبدأت المماطلات إلى أن تم فك اللجنة، وأعيد في عام 2001 منح موافقة على لجنة جديدة".
"ثم بدأنا -يضيف أبو عبد الله- معركة الحصول على ترخيص لبدء البناء، وفي فبراير من عام 2005 حصلنا على هذه الموافقة؛ لنبدأ في مرحلة جمع التبرعات المالية اللازمة لإعمار المسجد.
يتنهد قليلا، ويلملم حروفه بصوته الذي غير من نبرته الزمن، ثم يتابع: "وفي عام 2006 بدأنا فعليا بناء المسجد، ومنذ ذلك الوقت ونحن نقوم بالبناء وفقا لما يتوافر لدينا من أموال".
ومع كل هذا المشوار الطويل، فإن بلدية الاحتلال لم تتوقف عن مضايقاتها؛ فهي لا تزال ترفض منح المسجد الاشتراك الرسمي بالكهرباء والماء، وكذلك تعوق عملية تركيب نظام إنذار الحرائق، والعائلات اليهودية القريبة من القرية لا تزال تبعث للبلدية بشكاوى تدعي فيها انزعاجها من صوت الأذان بمكبرات الصوت، خاصة أذان الفجر؛ ما اضطر إدارة المسجد إلى خفض صوت السماعات عما كانت عليه من قبل، بحسب حليحل.
وإضافة لذلك يشير الرجل الفلسطيني إلى أن ما تم جمعه من أموال ليست كافية لإنهاء البناء بالشكل الكامل؛ فما زالت مئذنة المسجد تنتظر دورها، مشيرا إلى أن البناء تكلف حتى الآن 3 ملايين شيكل إسرائيلي (806.8 آلاف دولار).
وعلى هذا الأساس وجه حليحل نداء إلى القادرين على التبرع لإتمام ما تبقى من مرافق وبناء المئذنة الخاصة به، وشراء جهاز الإنذار المبكر للحرائق.
ويتكون المسجد من مسطح 230 مترا مربعا، ويضم جزءا خاصا بالرجال وآخر بالنساء، إلى جانب المرفقات كأماكن الوضوء.
بدون إمام:تعطش الكثيرون من أهالي القرية لمسجد قريب منهم جعلهم يباشرون أداء الصلاة فيه قبل عدة شهور، إلا أنه ما زال ينقصهم الإمام الذي يؤمهم في صلاتهم.ويقول حليحل: "في بداية الأمر كان يحضر إلينا إمام من مدينة القدس ليصلي بنا الجمعة وبعض الأوقات الأخرى، إلا أنه لم يعد يحضر بعد أن التزم بوظيفة أخرى صعَّبت عليه القدوم إلى القرية.. ومنذ ذلك الوقت يأتي إمام آخر وفقا لوقته، وما زلنا حتى اليوم بدون إمام متفرغ".وعدم وجود إمام متفرغ للمسجد، وحرمان أهالي القرية من المسجد لسنوات طويلة انعكس على الالتزام الديني لدى فئة الشباب في القرية، وفي هذا يقول حليحل: "غياب دور المسجد، واضطرار الأطفال والشباب إلى الاختلاط بالإسرائيليين في المناطق المجاورة للذهاب إلى المدارس أو البحث عن فرص عمل جعل الوازع الديني في نفوسهم ضعيفا".ولذا "نحن نحتاج إلى إمام قريب من قلوب الشباب، ويمتلك من العلم والاطلاع الكثير؛ حتى ينهض بسكان هذه القرية الذين عاشوا لفترة طويلة بعيدين عن العبادة.
يصف الحاج أبو الخير (60 عاما) مشاعر اللحظات الأولى التي اجتاحته فور سماعه صوت الأذان بالقرية لأول مرة منذ عام 1948: "اعتدنا على سماع الأذان من خلال الراديو أو جهاز التلفاز.. وما إن سمعناه عبر مكبرات صوت المسجد حتى ارتعش جسدي".
ويتابع لـ"إسلام أون لاين": "شعرت بلحظات إيمانية.. إنها لذة الإيمان وحلاوته التي حاول الاحتلال حرماننا منها طيلة هذه الأعوام، ونحن اليوم نثبت له أنه إذا استطاع سلب أرضنا فلن يستطيع سلب الإيمان منا".تتابع الكلمات، وتتلألأ بهجة الابتسامة على وجهه وهو يواصل: "كنت أذهب للصلاة في قرية جيش المجاورة والتي تبعد نحو 13 كيلومترا عن قريتنا.. كنا نعاني كثيرا من ذلك، ونركز على صلاة الجمعة فقط.. أما اليوم فبإمكاننا الصلاة بالمسجد كل الأوقات".
أين تقع عكبره: إلى الجنوب من مدينة صفد، وعلى مساحة من الأرض تبلغ قرابة 3 آلاف كيلو متر مربع تمتد قرية عكبرة بمنازلها المتواضعة التي ترتسم عليها ملامح الفقر والبساطة، بينما يبلغ عدد سكانها نحو 500 شخص. هجَّر الاحتلال سكانها في عام 48، فما كان من أهالي القرى المهجرة في شمال فلسطين إلا أن أتوا للسكن مكان عائلاتها.. ومنذ ذلك الوقت منعتهم قوات الاحتلال من بناء المنازل، وتركتهم يعيشون في بيوت من صفيح، وبقي الأمر على ذلك حتى أواسط الثمانينيات لتسمح لهم سلطات الاحتلال ببناء بيوت مشيدة من الأسمنت. اشتهرت عائلاتها بتربية الماشية، وبالزراعة؛ لطبيعة التضاريس ومساحات الأرض الفارغة، إلا أن قيود الاحتلال على تربية الماشية جعلتهم يتخلون عن مصدر رزقهم هذا، ويبدءون بالبحث عن وظائف تعيش عائلاتهم منها.وطوال الأعوام الماضية والسلطات الإسرائيلية تسعى لإخراج السكان العرب من القرية بوسائل مختلفة، منها حرمانهم من بناء المساجد والمدارس والمنازل اللائقة، والمياه النظيفة، وأغرت جزءا منهم بالتوجه للسكن في أماكن أخرى، بينما بقي الكثيرون مرابطين.
منقول عن إسلام أون لاين