بقلم: ماجـد الزيـر
رئيس مؤتمر فلسطينيي أوروبا
مجلة "ميدان" الصادرة في برلين لعدد يناير ٢٠٢١،
أصبح السابع والعشرون من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 2020، تاريخاً محفوراً في وجدان وذاكرة أبناء الجالية الفلسطينية والعربية في العاصمة الألمانية برلين من أصحاب المبادئ والعاملين لقضايا الحق والعدل في العالم، فقد اختطف الموت مساء ذلك اليوم من بينهم المناضل المجاهد محمد فاعور، وهو الناشط الريادي المتقدم البارز الذي عمل أكثر من ثلاثة عقود خلت وترك أثره وفعله في جنبات المدينة، وهو الذي طالما نادى بالتمسك بقيم الدين الإسلامي الحنيف، وإلى جانب ذلك كان عاملاً بجدٍّ فيما يمكن أن يُعدّ إسهاماً فعلياً في سبيل استعادة الحق المسلوب في فلسطين الحبيبة.
لقاؤنا الأول في أواسط تسيعنيات القرن الماضي، وكنت زائراً لألمانيا من لندن، حيث اجتمعنا في جلسة عصف ذهني مع نخبة من أبناء فلسطين الساعين لتحقيق العودة الفعلية لديارهم ومدنهم التي هُجّروا منها عام 1948 واستعادة كامل الحقوق المشروعة، وكان ذلك الحوار من منطلق واقع فلسطينيي أوروبا وإطار القوانين الألمانية والأوروبية والدولية. ومن قصد برلين في العقود القليلة الماضية ساعياً من أجل فلسطين وتنظيم العمل فيها وكذا القارة الأوروبية، وجد نفسه سريعاً يسير كتفاً بكتف مع سليل العائلة المناضلة ابن قرية شَعَب في الشمال الفلسطيني المحتل، محمد فاعور.
جمع أبو عبيدة فاعور في شخصيته الوطنية صفات موروثة وأخرى مكتسبة من البيئات التي عاش فيها من المهد للحد، وصبغها برونق خاص بأن التزم بتعاليم دينه ضمن المدرسة المعتدلة في اتباع ما جاء به رسولنا الأعظم عليه السلام مُبلّغاً عن ربه سبحانه.
من يطّلع على سيرة المناضل أمين توفيق فاعور؛ والد فقيدنا محمد، يعرف أن الروح الثورية وقيم الإصرار والتمسك بالحقوق مغروسة في جينات فقيدنا أبوعبيدة، فالمجاهد الوالد العروبي الناصري أمين فاعور هبّ للدفاع عن فلسطين باكراً قبل نكبة فلسطين عام 1948، وانخرط مع مجموعة القائد المجاهد إبراهيم الشيخ خليل (أبو إسعاف) ابن قرية شَعَب ونائبه القائد مصطفى الطيار اللذَين شكّلا "حامية شعب" وجابهوا العصابات الصهيونية قبل النكبة وأثناءها حتى عام 1949، وأثخنوا في العدو الصهيوني الجراح، وأصيب والد الفقيد ثم تم أسره ومكث في المعتقل لأكثر من سنة وأُبعِد بعدها إلى سورية عام 1950، انتقل بعدها إلى لبنان، واستقرّ في منطقة البقاع حيث تزوج من السيدة كاملة فاعور (رحمها الله) سنة 1953، وكانت حصيلة شراكتهم الزوجية ستة من الأبناء وابنتين.
انتقل الوالد أمين فاعور إلى مخيم الرشيدية في الجنوب اللبناني في أوائل ستينيات القرن الماضي، حيث أنجب فيه فقيدنا أبو عبيدة في الشهر الرابع من عام 1964، وعاش المرحوم محمد فاعور سنواته الخمس الاولى في مخيمات اللاجئين، فرأت عيناه النور في بيئة مرتبطة بشكل عضوي بالتهجير من فلسطين، وكانت بشكل تلقائي محضناً تربوياً ثورياً مفعماً بالمشاعر الوطنية وحيوياً بالعمل على استعادة الحقوق. ومخيم الرشيدية هو أقرب المخيمات الفلسطينية في لبنان من حدود فلسطين، وقرية شَعَب التي ينتمي إليها آل فاعور الشمال الفلسطيني لا تبعد كثيراً عن الحدود، كان بعض اللاجئين يذهبون إليها قبل أن تقفل الحدود نهائياً في خمسينيات القرن الماضي.
المحطة الرابعة لعائلة محمد فاعور كانت الضاحية الجنوبية لبيروت، تحديداً قرب مخيم برج البراجنة والاستقرار فيها عام 1969. حيث التحق المرحوم أبو عبيدة فاعور بمدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) حتى نهاية المرحلة المتوسطة (البريفيه)، وعليه ترعرع الفقيد وتكونت شخصيته في المراحل الأولى من حياته في بيئة تعليمية فلسطينية بامتياز ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً باللاجئين والتهجير وحق العودة. وفي خلال المرحلة الثانوية التي درسها في مدرسة (مبرّة الملك فيصل للاجئين الفلسطينيين) وجد رحمه الله نفسه وطبيعته منسجماً مع بيئة المساجد والالتزام بالدين، وظل المرحوم على ذلك مرتبطاً وملتصقاً ببيئة المساجد، مصاحباً وخادماً لروّادها إلى أن فاضت روحه الطاهرة لباريها.
وعن انفجار حرب المخيمات عام 1985، أصبح بيتهم في منطقة عسكرية معادية، اضطرت العائلة لمغادرة المنطقة، وانتقل فقيدنا العزيز لألمانيا ساعياً لطلب العلم حيث حصل على شهادة البكالوريوس في هندسة المعدّات الطبية من إحدى الجامعات في برلين. ملأ حياته الجامعية وبعدها حياته العملية في ألمانيا طوال 34 عاماً، بالعمل الجاد والمضني والمستمر، وساهم مع المؤمنين بنفس طريقته في العمل بإرساء مؤسسات راسخة تعمل ضمن القوانين الأوروبية لخدمة دينه ووطنه، وتعدى ذلك الجهد برلين ليشمل ألمانيا بل تعداه للقارة الأوروبية.
المرحوم فاعور من مؤسسي العديد من المراكز الإسلامية في برلين، وهو أيضاً عضو مؤسس في التجمع الفلسطيني في ألمانيا، وكان عضو هيئته الإدارية حتى لحظة حياته الأخيرة، وهو العضو الفاعل في مؤتمر فلسطينيي أوروبا، وكان له إسهامه في العديد من الجوانب الحيوية في استمرار المؤتمر سنوياً منذ العام 2003، من النسخة الأولى في لندن إلى المؤتمر الثامن عشر الذي كان قد اكتمل الإعداد لانعقاده في باريس في الشهر الرابع من سنة 2020 وتم تأجيله بسبب جائحة كورونا التي عصفت بالعالم وأثرت على مناحي الحياة وراح ضحيتها الملايين من البشر ومنهم حبيبنا محمد فاعور رحمه الله ورحم كل من قضى.
ظل الفقيد فاعور متواصلاً مع لبنان ومخيماته فلم تنقطع علاقته بأهله، وكان مساهماً بإسناد شعبه المكلوم هناك، وهو أيضاً له تواصله وعطاؤه مع فلسطين، في غزة والضفة والأراضي المحتلة عام 1948 وفيها ما زال يعيش المئات من أبناء عمومته في قرية شَعَب.
دفع أبو عبيدة الحبيب ثمناً لأجل التزامه بقضيته ودينه والعمل لهما، فقد حُرم من الحصول على الجنسية الألمانية رغم إقامته الدائمة في برلين لأكثر من ثلاثة عقود، لا لذنب اقترفه ولا لجريمة أُدين فيها، فيما اعتبره انتهاكاً صارخاً لحقوقه وانحيازاً سافراً من السلطات الألمانية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وهي بذلك تقف لجانب الظالم ضد المظلوم. والفقيد محمد فاعور ليس استثناء من بين أبناء فلسطين في ألمانيا الذين حُرِموا من الحصول على الجنسية الألمانية كونهم ناشطين في العمل الفلسطيني، وأعتقد أنه آن الأوان لهذا الملف أن يُفتح بشكل جماعي وقانوني ويُسلَّط عليه الضوء من كل هيئات حقوق الإنسان والمنصات الإعلامية.
رحل محمد فاعور ابن فلسطين ولم يرحل أثره للعمل لقضيته، فهو رحمه الله مات جسداً ولم يمت أثراً، سيبقى عطاؤه بلا حدود حاضراً في حياة كل من يعايش ما بنى، وهو الذي سخر كل جوانب حياته وقتاً وجهداً وفكراً ومالاً وبيتاً وأماكن عمل لقضيته وخدمة ما يؤمن به، نسأل الله أن يكتبه شهيداً عنده في الصالحين.