الشريف عبد اللطيف بن محمد بن صالح أبو ظاهر الحسني عميد الأسرة
( 1900- 1981)
هذا رجل رمته الحياة بأدهى الدواهي، ونزلت به إلى الحضيض الذي يدعو أشد الناس أعصابا الى الجنون، فقفز قفزة واحدة من حضيض الإخفاق إلى ذروة النجاح والفلاح، فكان في علمه وفضله وعمله، وفي بيانه وعقله إحدى فلتات الدهر، كان مثلا للبلاغة يحتذى، وبيان يجتلى، رجل المواقف،جاءته شكوى من احد عماله في مزارعه وممتلكاته فوقع عليها قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت. واعتذر إليه رجل فقال له: قد أغناك الله بالعذر منا، عن الاعتذار إلينا، وأغنانا بالمودة لك عن سوء الظن بك، لم يكن يتعمد حلاوة اللفظ ولو كان فيها ضياع الحق.
وكان يقول لإخوته: اكتبوا أحسن ما تسمعون، أحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون، فكانوا يعملون بهذه النصيحة، فكانوا صفة الصفوة ولب اللباب، فكانوا ملوك الكلام كما كانوا ملوك المال وملوك الناس بتعاملهم.
بعد هذه المقدمة لا بد من التعريف بالشريف عبد اللطيف بن محمد بن صالح أبي ظاهر الجودي الحسني، ولد عام 1900 ميلادية في يوم الخميس السابع من شعبان لعام 1375 هجرية ، فهو عميد الأسرة بعد والده محمد بن صالح الجودي، وكبيرها إليه يلجئ في الملمات، وتفصل عنده الخصومات، حكمه عدل، وقوله فصل.
كريم الخلق، معطاء اليد، وكان يقول: ثلاثة تدل على عقول أربابها الهدية والكتاب والرسول. والدنيا دول، والمال عارية، ولنا فيمن قبلنا اسوة، وبنا لمن بعدنا عبرة.
ومنها أيضا: من لم أحسن إليه فأنا مخير فيه، ومن أحسنت إليه فأنا مرتهن به.
هذا رجل له في كل منطقة حلّ بها مظهر من مظاهر الحياة، وفي كل ناحية من نواحي الإصلاح عملا، لأنه باعث نهضة التعليم، ونهضة البناء، ومعلم الأجيال.
فقد رصف طرقات، وشيد المساجد والملتقيات ( المضافات ) مضافة الأسرة الحاكمة في طولكرم مضافة أبو ظاهر الحسني، كانت بمثابة دار الندوة بغابر الأزمان، فيها تتدارس الأخبار انبعثت أنوارها حتى ملأت أركان القرية المقيم بها زهوا بمجد آبائهم، والعمل على إعادة ذلك المجد، تسلحوا لها بالعلم، وكان الشيخ الشريف من أوائل من رغب فيه، ودفع إليه.
فهذا زائر([1]يحط رحالة في المضافة ليطلق عبارات المحبة والتقدير مادحا الشريف بقوله:
عـبــد الــلــطــيف الـــذي شـــاعـت مـــكارمــه
|
حـتـى تـنـــاشــــدهــــا الأصــــــحاب ثـم عــــدا
|
الــهــاشــمــي الــحــســنـي ســــــيــد بـــطــــل
|
مــن كــان بــالــعــلـــم فــيــنــا مــلــجــأ ســندا
|
مــن كــان يــبــدي الــســخـايــا صــاح من قدم
|
حــفــيــد الــجــودي وكــفــه بـالـجـــود ما نفدا
|
لله در بــنــي هــاشــم بـالـعـطـا والسخا صفات
|
ورثــتهــا بـنـو أبــى ظـــاهــر مـــا ارتـحــــلوا
|
قـــد فــــاقـــو الــنــــاس جـــودا وخـــلـــقـــــا
|
وســـادو فــي الـنــاس فــجــرا زائــدا ونــــــدا
|
وكـم مــن مـكـارم أخلاق حباهم المولى بها
|
مــولانــا جــــــــــل عــلاه حـــاكــمــا صــمــدا
|
كلما أوغلت بسير الصالحين رأيت دلائل جدد على نبل وأصالة هذه الأسرة بني هاشم الغر الميامين.
يا سادة إن القلم يقف إن لم يمده قلب واع وذهن مفكر، وانه ليقف إن طغت على القلب العواطف وازدحمت على الذهن الفِكَر، فاعذروني إذا إنا أجملت ولم افصل، وأشرت ولم أوضح، ومررت بهذه الحياة مرّ الطائرة فوق المدينة الحافلة بكل جميل وعظيم.
كان يعطي من قلبه مثلما يعطي من لسانه، فكان أوفى الناس لصديق، وأبرهم به واقضاهم لحاجته، كان يذيع الحب أينما سار كحامل المسك حيثما مشى فاح منه العطر.
ولم يكن لطفه من ضعف وكان أعز خلق الله نفسا، ويأبى الدنيّة ويرى أن له الصدر، لا لذاته بل لأنه يحمل لواء الرسالة المحمدية ولواء الدين بين أبناء الدنيا، وما عرفت ولا عرف الناس أنه رضي مرة بغير الصدر ولو كان في مجلس الرئيس والحاكم، وقد أتاه الله من الهيبة والجلال ما مكن الله له ذلك حتى عند من لم يعرفه، ليتني استطيع المضي قدما في الحديث ولكن أزف الوقت فعفوا يا سيدي لم اصف كل ما اعرفه عنك، سلام عليك سلام القلب، سلام الحب سلام الولد لوالده، وحسبك سيرتك بابا إلى الخلود، اللهم اغفر له وارحمه، وزد في حسناته، وتجاوز عن سيئاته، وألحقه بالذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ففي صبيحة يوم الجمعة من عام 1982 انتقل الشريف إلى الرفيق الأعلى وهو يتوضأ لصلاة الفجر، فالسلام عليك سيدي سيمر دهر طويل قبل أن نرى بعدك رجلا مثلك له قلب مثل قلبك ونبل مثل نبلك وان كنت اشعر بهذه المشاعر التي كنت تتحلى بها، ومن له هيبتك وهيئتك وعزتك وعفتك.
الشريف عبد الكريم بن عبد اللطيف بن محمد بن صالح أبي ظاهر الحسني
هو الشريف المنيف أبي ظاهر، عبد الكريم بن عبد اللطيف بن محمد بن صالح بن محمد الجودي الحسني الهاشمي، ولد بمدينة طولكرم في صبيحة يوم الخميس طلع فجر الشريف أبي ظاهر بعام 1929 ميلادية، رجل المهمات الصعبة، رجل الطيبة الهاشمية، رجل المواقف النبيلة، عمل في جمع شمل اسرته، وعمّر لهم من الأراضي والضياع والمنازل، فبقلبه الكبير احتواهم رغم كثرة الحوادث الأليمة في حياته التي واكبها، فقلبه لم يتسع إلا للمحبة والحنو، وفي خطواته أصالة الشرفاء، وفي كلماته صدق الكبار.
لقد عرفته وأحببته، أو لعلني أحببته يوم عرفته، فقد كان التتمة الرضية للسلالة المرضية، لا يهاون ولا يهاود، ولا يعمل عن غرض دنيوي زائل، ولا يختلق شرا، ولا يبتغي مكسبا، ولا يهادن سوءا ولا ينحني إلا لله.
ولا يستطيع من يعرفه إلا ان يصفه بالإنسان، فإنسانيته الكريمة طابعة الخاص، ونهجه الكريم، فهو بحق قد اخذ من اسمه عبد الكريم، كرم الخلق وطيب المعشر، حفظه الله لنا كبيرا وقورا، عقلا وفكرا هاشميا مستيرا.
الشريف محمد أمين بن عبد اللطيف بن محمد بن صالح أبو ظاهر الحسني عميد الأسرة ( 1938 )
في صبيحة يوم الاثنين في الثاني من عشر من رمضان المبارك من عام 1357 هجرية الموافق 14 من تشرين الثاني لعام 1938 ميلادية، بزغ فجر الشريف محمد أمين حفظه الله، في بيت صغير صحنها بركة حولها مجاز، وبناؤها غرفتان فوق درج يقيم به الشيخ الشريف الزاهد بحق عبد اللطيف، وفي تلك الساحة بابٌ يطل على بستان فسيح، وروض أنيق، فيه ما اشتهيت من ثمر، وما رجوت من زَهر، وعسل مصفى، جمعت فيه فواكه الشتاء والصيف، وأزهار السهل والجبل، وجني اليوم والأمس من كل غضّ جديد، وقديم مرت عليه قرون وما فقد جِدّته ولا أضاع غضارته، وفيه الربح وفيه المتعة وفيه النفع، وفيه نهر أن شئت عللت منه وإن شئت نهلت،وإن شئت ملأت،أو سبحت، وفيه اسطبل للخيل، وقصر مسحور تشرف منه على الدنيا كلها، غابرها وحاضرها، تستمع منه كل حديث ولو قضى محدثوه من عصور، وتجالس فيه كل عالم وأديب ولو مات من دهور، ففي هذه البيئة نشأ الشريف محمد أمين حتى اذا بلغ من العمر ستة عشر عاما انتقل الى عمّان عاصمة ملك اعمامه وأجداده من آل البيت الطيبين الطاهرين، ليسلك طريقا الى العسكرية وخدمة دامت عشرون عاما ونيف في الجيش العربي الاردني تنقّل خلالها وتدرج بها من مرحلة الى اخرى حتى أنعم عليه جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله وسام الاستقلال، ودرع الجيش العربي، لينتقل بعد ذلك الى الخدمة العسكرية في دولة الامارات العربية المتحدة بهيئة شئون الافراد، فكان وما زال رجل الصلاح والإصلاح، وكانت حياته في نظري درسا لمن أراد ان يتعلم كيف يكون المرء سعيدا وكيف يجمع الدنيا والآخرة، واللذة والشرف، وكيف يثق أن السعادة ليست بالمال الذي يتقاتل الناس عليه ولا بالجاه الذي يسعى الناس اليه ، ولا بالقصور الشم والمنازل العوالي، فقد زرت القصور وجالست الملوك وصاحبت الأغنياء، ولازمت الرؤساء، فلم أر السعادة على أتمها واكملها إلا في أمثال هذه الدار التي لا تتجاوز غرفة بالسجاد النظيف، يخلع الداخل اليها نعله ثم يجلس على الأرض، فحيثما جلست دفءٌ ونظافة تشعرك نظافة الروح ودفء الحب، يستقبلك فيها هذا الشريف تقرأ في اساريره الطيب والإخلاص، وترى في عينيه الحب والطهر، يسلم عليك يرحب بك لا ترحيب المتكلف وسلام المنافق، وترى منه الود الصادق، والرأي المحكم والنكتة البسيطة والتواضع، وتراه حائرا فيما يكرمك، يُلزمك محبته، ويشعرك اجلاله، لا يتصنع لذلك ولا يريده، ولكن منظره ومخبره يوحيان إليك بذلك.
كان سعيدا برغم وعورة الطريق، لكن كان مؤمنا بالله، يعلم بأن كل ما جاءه فمنه، وكل ما ذهب منه فبحكمه، ويوقن أن الرزق مقسوم وأن الله هو المحيى لا المال، فكان المال أهون شيء عليه، فكان ينعم بمتعة الطرفة على أحسن ما نعم بها بشر، فيحيا في قفر الحياة في واحة مخضرة ظليلة، وروضة ممرعة أنيقة.
فهو واسطة عقد جماعته أحبهم وأحبوه، ودعاهم الى الخير فاتبعوه، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر فاتبعوه، فاتحدوا قلبا وقالبا، تآخت آسرهم، وتوادّت نساؤهم، لا يجلس متجهم الوجه يعظ ابدا، ويتلو الأحاديث ولا يتظاهر بخشونة الثوب وتطويل السبحة وتعريض الجبة كما يصنع هؤلاء الذين يدّعون الولاية دعوى بلا دليل، وكانت زهادته في المال عرضت له الفرص ليكون موظفا كبيرا فأبى.
إن كان في السياسيين وفي الزعماء وفي الرؤساء من يظن أنه صار من طينة غير الطين الذي خلق الله منه الناس فتّرفع عليهم، ونأى بجانبه عنهم، وشمخ بأنفه عليهم .. فإن الشريف محمد أمين بقى كما هو موظف صغير، بقى ابنا للبلد وأخا لأبناء البلد متواضعا مضيافا وقورا، وهذا الذي يحبب الزعيم الى الشعوب، يحبون أن الزعيم منهم، وهذه سنة سيد الزعماء عليه الصلاة والسلام، لما رأى الرجل يرتعد من هيبته، قال له يطمئنه: إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تاكل القديد بمكة، يقولها صادقا صلى الله عليه وآله وسلم.
كتبت ولو كان لمداد قلمي اجل لجلت به اكثر وقد قيل المعاصرة حرمان، وأزهد الناس بالعالم أهله وجيرانه، وستمحص السنون عن هذا الرجل من العترة الطيبة الطاهرة، فتميز الجوهر من الزجاج، والذهب من النحاس والله وليي المستعان.
(9)هو شاعر المنقول خالد العلي من مدينة نابلس وقد ألقى هذه الأبيات بسنة 1387 هجرية.