فارس يترجّل عن صهوة التعب
لأنكَ حملت كل هذا النقاء، وآثرت الصمت.! زيّنت جفاف الوقت الحزين بعلامات الصبر المحشوّ بما آمنت به من قيم.
لأنك النبيل، سيّلت على عتبات تفتّحنا مفردات المعرفة، ثم، عندما أدركت أن الذاكرة التي ما زالت رطيبة في عيون أطفال يبحثون قسراً عن طرائق الرجولة، زرعت في صدورهم قيمة الذاكرة.
أطفالاً كنّا، غادرنا منذ قليل فراشنا الدفيء، وأوغَلت فينا أشرعة التعب، والخوف، والجوع، والألم.. تقاطرنا أرتالاً من فضاءت يافا، وعكا، وحيفا، والجليل، لنلتقي بك قادماً من حواري صفد.
كنتَ تبحث عنهم، فرأيتهم يقفزون فوق رقائق متاع طفولتهم، فأمسكتَ باللحظة، وفردت على بساط مداركهم مكمن الوجع، ثم فتحت في ذلك السدّ، الذي كان كتيماً، نافذة أسميتها وشائج اللغة، لتعجن منها برائق أمل يتجدد كلما دخلتَ عليهم فسحة الصفّ الكسير.
كنتُ واحداً منهم، من صدقِك تنسّمتُ رياح الوسيلة، ومن علمِك فتحتَ أمامي بوّابات النور، فكنتَ لي.. ولنا، الصديق الصدوق، الحازم الطيّب، والباذل عطاءً ليس له حدود.
نرى في بريق عينيك جرمق صفد، وفي رجف أصابعك حدود الوطن، وفي جبينك بندقية..
تقول إنها فاتحة الطريق، إنها.. أنتم.
أذكر أصابعك الراجفة، تمسك بياض طبشورة مقطّعة الأنفاس، تبعث فيها من روحك خفقة حياة فنتسلّق متنَها الرحيب، ونصعد معك، نصعد.. نصعد إلى أن يكفّ فينا الرجاء.
تدخل الصف، تكتب على اللوح، "لغتنا العربية"، ثم تكتب تحتها، "حصّة الإنشاء"، فنتبادل جميعاً نبضات فرحك الصامت، تلتفت إلى وجوهنا المسكونة في رجفات أصابعك، فتكتب: الموضوع.. "أكتب ما تشاء في سوار الوطن". فنكتب ما نشاء، تقرؤنا، ثم تهدي من ترضيك لغته، ومراميه من خزانة فقرِك، كتاباً، أو قلماً، أو حتى رجفة ثناء.
صمتك كان يفتح على مدى مخيّلاتنا دواوين المعرفة..
وتمضي بك وبنا رحلة الحياة، رحلة التعب والصمود والأمل.
أقول: أستاذي ومعلمي
فتقول: بل كنّا في صفّ واحد.. وتبتسم.
يخجلني تواضعك، أحاول أن أتمرّد، فتسبقني إلى الحقيقة، تقول:
ـ في صفّ واحد، أنا على منصّة العطاء، وأنت على مقعد التلقّي.
آمنتَ أن الثقافة معيار الانتماء، فبذلت كل خفقة نبيلة تماهت في صدرك كي تكرّسها سبيلاً ودرباً وسلوكاً.
هل تذكر في آخر مرة التقينا صدفة في أحد أسواق دمشق.؟
ما زلت أرى في عينيك بريق الجرمق، وسور عكا، ونقاء البحر.
ثم
رحلتَ بصمت أيضاً..
هاتف جاءني يحمل صوتاً ينبض بالحزن:
ـ رحل "أبو يوسف"
رباه.. كيف يرحل دون تلويحة وداع.؟
يعود الصوت الحزين يرجف بأسى:
ـ رحل صباح الأحد الماضي..
اليوم خميس.. خمسة أيام أيها الصديق حتى يصلني خبر رحيلك.؟
هل أوغلَ فيك الصمت حتى تداري عنا لحظة الرحيل.؟
أخي وصديقي وأستاذي ومعلمي محمود فلاحة "أبو يوسف"، ها أنت تغادر عالم التعب، كي تلتقي بالأصفياء، فقدناك أيها الغالي، لكننا لم ولن نفقد مسارات نبلك وعطائك.
لن أقول وداعاً، بل لا بد أن نلتقي على سفح الجرمق الذي أحببت.. وأحببنا.
يرحمك الله، ويلهم ذويك، وكل من عرفك، ونهل من مسارات علمك، الصبر الجميل..
ـ ـ ـ
(*) محمود فلاحة "أبو يوسف" مواليد 1932 في مدينة صفد، لجأ إلى سورية إبان نكبة 1948 وبدأ حياته العملية مبكّراً كمدرّس للغة العربية في مدارس "الأونروا" ثم في دول الخليج، وكان له، مع رعيل المدرّسين الفلسطينيين الأوائل، الأثر الواضح في مسيرة تعليم الجيل في أحلك الظروف، وأدقّها.
كان "رحمه الله" أديباً ومناضلا ملتزماً بالثوابت الوطنية والقومية، وكان هادئاً وشهماً ونبيلاً كريم النفس صادقاً وخلوقاً ونظيف اليد والطويّة، ويملك قدرة كبيرة على العطاء، عمل مستشاراً ثقافياً في القصر الجمهوري السوري في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكان من المؤسسين الأوائل للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين في سورية، عضو سابق في المجلس التشريعي الفلسطيني، عضو الاتحاد البرلماني العربي، مترجم لوزارة الثقافة في سورية، ودار طلاس، وله العديد من الترجمات والمؤلفات.
وافته المنيّة في يوم الأحد الموافق 26/12/2010.