محمد قاسم موسى – سحماتا
محمد قاسم موسى مواليد 1929 من سحماتا، تحد سحماتا دير القاسي، من الشرق سعسع وبيت جن، ومن الشمال كفر سميع ومن الغرب ترشيحا.
كانت بلدنا سحماتا مشهورة بالزيتون وبالفلاحة والزراعة، زراعة القمح وعدس ومن جميع الزراعات اللازمة. البيوت فيها تسمى القلعة، سكن فيها موسى أكثر شيء، ومن غربها قدورة ومن الشمال المسيحية.
كان الناس يحبون بعضهم كثيراً، في الأفراح يجتمعون سواءً من مختلف العائلات موسى وقدورة وعزام وغيرهم حتى المسيحية كانت تربطنا بهم علاقات ودّ وحبّ. مثلاً عند الدعوة لحضور عرس، البلد كلها تذهب لحضور العرس.
كان في سحماتا مدرسة ودرست فيها، والمدير كان فوزي الشهابي من بيسان وكان لدينا محددة (حدادة) ومنجرة بجانب المدرسة. كان معي في المدرسة محمد ابن الحاج هاشم وعمر، وعلي يوسف الحاج. درست حتى الصف الثالث، ثم خرجنا بالعام 1948.
قبل النكبة ذهبت الى عكا أتعلم بجامع أحمد باشا الجزار، أنا وابن عمي عبد الله، وبعد فترة غادرنا. شاهدنا مظاهرات ضد اليهود، كانت اليهود يأتون الى البلد ويدّعون أنهم سياح ولكنهم لا يعودوا ويتبعوا مقيمين بنفس البلد.
كان مدير مدرستنا جميل الزنانيري في عكا كنت أساعد الأهل بالفلاحة والزيتون، أفلح الارض بالكرم (وكان عمري 13 سنة حينذاك)، نزرع قمح عدس كرسنة، وحبوب.
كان عندنا معصرة داخل البلد تعمل على الخيل، نعصر الزيتون وكل عائلة تأخذ مونتها، أما الذي يفيض يعطى للمحتاج.
الإنجليز هنا ضايقونا كثيراً، كان عندنا مركز للشرطة، جاء الثوار وأخذوهم ليلاً، وفي اليوم الثاني داهم الإنجليز القرية، جاء والدي وقال لنا احزموا أغراضكم لأن الانجليز سيداهمون البلد. كان أخواي عمو وعلي (توأم) مولودين حديثاً ولا يتجاوز عمرهما 15 يوم، حملتهما أمي وأنا أركض وراءها، فوقعت أمي على الأرض وجاءت خالتي (زوجة أبي) عشية ساعدتها، وقالت الحمد لله ما زالوا على قيد الحياة. فأكملنا طريقنا الى بلدة البقيعة، هذه البلدة فيها دروز ويهود وإسلام، والإسلام أقل شي، وبقينا حتى خرج الإنجليز من سحماتا، فعدنا الى سحماتا ووجدنا الإنجليز قد دمروا كل شيء، كذلك خلطوا القمح مع الزيت والزيتون.
في ثورة الـ1936 أهالي سحماتا حضنوا الثوار، دار موسى حضنوا الثوار، سعيد العبد موسى، قاسم العبد موسى، وبيت حسين العبد موسى، ومحمود العبد موسى وموسى المحمد كلهم أخوة، هم اهتموا بالثوار.
البلد كانت تستقبل الثوار، عند بيت عمي سعيد العبد موسى، وعندما يأتي الثوار تأتي كل أهالي البلد ويجتمعون بالثوار عند بيت عمي سعيد.
عندما شرع اليهود بدخول البلدة واصبحوا يقتلون الشباب، اجتمع المخاتير الثلاثة بالبلد، محمود صالح، سعيد العبد موسى، وجريس سمعان، وقرروا في البداية أنهم لا يريدوا الخروج من سحماتا، ولكن قالوا إنهم لن يتحملوا مسؤولية البيوت التي تداهمها عصابات اليهود ويقتلون أهلها، فقالوا بالآخر كل واحد يدبر حالوا، عند ذلك خرجت الأهالي من القرية.
لم يكن السلاح متوافر، كان كل 3 أو 4 أشخاص يتشاركون لشراء السلاح واحد. الإنجليز منعوا الفلسطيني من حمل السلاح، أما اليهود كان الانجليز يعطونهم المستعمرات ويسلحوهم.
الأهالي كانوا يعلمون أن اليهود سيدخلون سحماتا، لأنهم عملوا كمين عدة مرات وقتلوا يهود وأسروا ضابط، فجاء الضباط اليهود، ليستلموا، ولكن عمي سعيد شارط عليهم أن يأخذوا الضابط مقابل فك أسر السجناء بعكا، فتركوا الناس، هذا الضابط اليهودي كان عمره 23 سنة يوغوسلافي (بقي مأسور 15 يوم)، يعزموه من بيت لبيت، وبالأول كان يخاف أن يأكل، ولكن أبي صار يأكل أمامه، فصار يأكل الطعام. فقال لنا اليهودي أن «الإسرائيليين نزعوا مني ملكيتي وهويتي ولا أستطيع الرجوع الى بلدي، وإذا خُيّرت لبقيت معكن هنا (في أول 1948)».
كانت الناس تعيش في بيوتها، عندما عمل الثوار الكمين، كان عنا ضيوف خليل عبود من البقيعة وآخر من شعب. جاء الطيران وحام فوقنا، فقلت لهم، هذا الطيران سيضرب، واقترح عليهم أن يلحقوا بي، فأنا تدربت في سورية (1947)، ثلاث أشهر مع شباب من بيسان وقضاء عكا (200 طالب). وبالآخر جمعونا لنختار بين العودة الى فلسطين أو الإلتحاق بالجيش السوري.
نحن عدنا الى فلسطين وكنا متأكدين أن هناك مؤامرة كبيرة، فقررنا كل شخصين منا يشتري بارودة.
يوم القصف كنا بالبيت، فهربت أنا وضيوفي لم يفرّوا، كان لي عمر أما هم فماتوا وقطعوا. جاء أبي فقلت له ما حصل، الضيف (من شعب دفن بسحماتا) وخليل عبود أخذوه أهله دفنوه في بلده.
ثم عدت الى البيت، وكانت الناس تخرج من بيوتها وإخوتي صغار، وجدتهم بجانب زيتونة وأخذتهم معها ومشينا، والناس في البلد كذلك قرروا الهروب.
لم نأخذ معنا شيء، خرجنا وأحمد سعيد العبد موسى (إبن عمي) مصاب، كنا نلتقي بالنساء والأولاد والرجال الخارجين في طريقنا.
وصلنا الى رميش في لبنان، وكان أبي له صداقات هنا، إستقبلونا وأخذنا غرفة على أساس سنرجع، لكن بقينا سنة نأكل من حسابنا الخاص.
بعد سنة جاء عمي سعيد وقال لأبي، هذه القصة ستطول، عليك أن تسجّل اسمك لتأخذ شوادر، وأكل ومعونات.
بقينا برميش سنة، ثم إطقلنا الى العباسية، خالي يوسف كان بالعبالسية (يوسف عبد الغني عامر) وكان معنا ناس من الكويكات (المختار خليل) وبقينا سنة بالعباسية ثم جئنا الى بعلبك.
هناك كثر كانوا يرجعون الى فلسطين بالليل ومن ثم تأتي الى لبنان، ولكن لا أذكر منهم أحداً. وكانت الأخبار التي تردنا أن بلدنا مدمرة نهائياً.
انا ذهبتفي سنة 1992 الى فلسطين (جاء الصليب الأحمر وقال لنا أنتم مدعويين من أقاربكم لزيارتهم) فذهبت أنا وأم قاسم، وعند وصولنا الى ترشيحا إستقبلونا، وعند وصولنا الى الناقورة، وجدنا كثيراً من الناس يريدون الدخول، بقينا شهر بفلسطين عند أولاد إخوتنا وأعمامنا وأخوالنا.
في زيارتي الى فلسطين ذهبت إلى سحماتا طبعاً ولكن لا يوجد شيء بيتنا لا أعرف أين هو.
«أنا مستعد أن أعود الى سحماتا أقعد على التراب حتى ولو هي مدمرة، الوطن غالي هذه أرض أبي وجدي وجد جدي. مهما كلّف الأمر سأرجع».
خليل موسى إستشهد بالثلاثينات، وهناك أشخاص من بيت موسى بقوا في فلسطين، أخوتي حسن وناجي بقوا هناك عند الدروز لمدة سنتين، ثم نقلوا الى ترشيحا، وكبروا الشباب وأخي حسن كان يعمل في حيفا (طراش) وقال لي إبنه عندما زرت فلسطين (1992) أن أخي تبهدل كثيراً وأخوتي خلفوا كثيراً من الأولاد.
تصور أولاد إخوتي وبناتهم في فلسطين مكثنا عندهم نحو شهر، ولكن دموعهم لم تجف من الحنين.
أوجه لأهلنا في فلسطين، أنه توكلوا على الله وبإذنه سنرجع الى وطننا، لو مهما كلّف الأمر وأعتقد أنّ الأيام باتت أقرب من أي وقت مضى، وإيامني بالله بأننا سنرجع إلى وطننا.