انا سعيد علي سليمان مواليد سحماتا، عام 1935.
سحماتا بلد قروية فلاحين، أغلب زراعتها قمح وشعير، وعدس، والموسم المشهور وهو الزيتون والدخان. الدخان والزيتون يزيد عن مونته ويبيع، الدخان يوردوا الى عكا ليصنع، تأتي من عكا وحيفا شركات مثل شركة الديك يأخذون الدخان. وبعد فترة يذهب الفلاحين الى الشركة ليأخذوا ثمن الدخان، ووقتها يأتي الفلاح سعيد، فيشتري ملابس وحلويات لعائلته.
والناس عندها طرش (غنم معزى وبقر...). وكانت تتعاون مع بعضها البعض (ليس مثل اليوم)، تشارك بعضها في الفرح والترح، عند وفاة شخص تتعطل البلد كلها وكذلك أوقات الفرح.
احنا بلدة جبلية، حارة فوقا وحارة تحتا، بينهم ساحة الكبيرة مثل الملعب، واسمها رحبة.
يجتمع أهل البلد بالساحة، وبجانب الساحة بركة، عند الشتاء تمتلىء ماء للحارتين، تسقس منها الطرش والدواب، وترش مشاتل الدخان منها حتى يصبح شتل،ثم ينقل ويزرع بالأرض.
انا درست بالمدرسة، كنا في البداية نقرأ عند الشيخ لمدة خمس سنوات، والطالب يأخذ معه رغيفين خبز معه، كانت إدارة الانكليز لا تقبل إدخال الولد للمدرسة إلا بعمر السبع سنوات. اذكر قرآن سنتين او ثلاثة بالمدرسة، كنا نتعلم القرأة وبحساب.
من الأساتذة كان في واحد اسمه خليل الديماسي وعمل مدير في المدرسة، ويأتي واحد من ترشيحا إسمه الاستاذ خالد، ويأتي من دير القاسي أستاذ أحمد الصادق. وكانوا يقولون انه الأستاذ خليل له فضل على البلد، لأنه جاء ليعلم من خارج البلد وهو كبير بالعمر، علّم الأباء والابناء.
ابو عماد حنيفة، عبد الرحيم عامر، صالح زيدان،عبد الله يوسف، من الحارة الفوقا صالح خالد عبد الله كان زميلي على الطاولة وبعده عايش بصيدا، هؤلاء كلهم أصدقائي بالمدرسة.
كان في جامع، والشيخ شحادة الحبشي كان شيخ الجامع، الصلاة ليس مثل هذه الأيام على الدوام، كان المصلين في الجامع قلائل، الناس كانت منشغلة بعملها وفلاحتها، كل مشغول بحاله.
لا يوجد اولاد بالحارات طيلة النهار، كل ولد صغير معه طرش سخول ويأخذها الى الارض لرعايتها. كل الناس تشتغل وتعمل ولا تعطل إلا بالأجر أو بالأعراس أو بالشتاء القوي جداً (هطول امطار غزيرة).
أذكر الجامع لم يكن فيه زخرفات بالجوامع مثل اليوم، ولا مؤذنات كبيرة، كانت الأولاد من مختلف الحارات تجلس حول الجامع وعند الأذان، يذهب الأولاد بين الحارات في طريق عودته إلى بيته يقولون أذّن المغرب، أذّن المغرب والصايم يفطر.
أثناء ختمة القرأن، يبدأ الطالب ومعه لوح خشب أسود وطبشورة، فيبدأ تعلم بسم الله الرحمن الرحيم ويبدأ من الحمد حتى يصل «سبّح»، يتعلمها بالتشكيل والهمزات. فعندما يصل الولد يسبحّ، فيقولوا: سبحّ وجيب الحاجة ودبحّ، أي أهل الطالب يعطوه دجاجة من دجاجاتهم، ويعطوه للشيخ كنا نقرأ القرأن بطريقة عادية ليس فيها التجويد، كما الآن، الشيوخ تقرأ القرأن بالتجويد الصحيح.
يبقى الطالب يحفظ أجزاء من القرأن حتى يختم سورة البقرة، وقتها ينقش الشيخ للولد نقشة، النقشة منقوشة حول الورقة ويكتب عليها، آية "الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين"، لحد 5-6 أيات، والأولاد يدوروا بالنقشة من بيت لبيت، ليعلموهم أنه ختم القرأن، فتصبح البيوت ترش عليه أرز أو برغل، أو يعطوه بيضة وكان الولد كل ما يصل الى باب بيت يقرأها، والأولاد الذين لم يتخرجوا بعد، يقولون "نصر من الله وفتح قريب وبشّر المؤمنين يا محمد"، بصوت عالي هذا هو المولد، ويدور بالنقشة، وبعد ذلك يعطوا ما جمعوا من أغراض (بيض، حبوب..) للشيخ، ثم يعطيه النقشة، والولد يعطيه النقشة بالبيت بقناطر البيت.
سعيد أسعد عثمان (أبو عماد أسعد حنيفة)، وصالح أسعد زيدان، وكثير أولاد وخالد إبن عمي صالح، هؤلاء ختموا القرأن، قليل الذين لم يدخلوا ابنهم عند الشيخ.
بيتنا كان في الحارة الشمالية والناس كانت تسكن مثلاً: دار حسين بمنطقة واحدة، دار علي، دار حسن، دار محمود، نحن دار علي سليمان كنا بأخر البلد، جدي وأعمامي، نعمر بيت كبير، وعندما يتزوج ولد يقسموا البيت جزء من البيت، يقسمه بالقناطر، أي البيت عبارة عن قناطر، فكل ما يتزوج واحد يعطوه 3-4 أو حسب (قناطر) ويفصلوه بحيط دار علي سليمان، كنّا بالحارة الشمالية، وبعد منزلنا لا يوجد بيوت.
كل العائلة كانت تعيش بالبيت حتى عند الزواج، كما سبق وقلت أي الكل مع بعض والسطح واحد. كما يقسموا للطرش أيضا".الكل يدخل من بوابة واحدة.
والدي كان يعمل على بغل (مكاري)، يحضر عنب، ثم ينزل الى الكابري، الى النهر، يأتون بالبرتقال والفلفل، وثم يطلع الى الشرق، ناحية حرميش والدير، يذهبوا على بيت جن، ويبيعونه هناك.
هذا هو المكاري، ويطلع الى بنت جبيل أيضاً ويبيعوا بالبلد وبالبلاد الأخرى. الجيران كما سبق وذكرت كلهم أعمامي وأقاربنا، ولكن يوجد جار واحد إسمه محمد خليل قدورة، كان عنده ماعز وغنم وجمال، وبجانبنا من الشرق بيت لعائلة مسيحية. ولكن على الطريق الثانية كان في كنيسة، وعندما يأتي الخوري كنا ندخل مع المسيحية الكنيسة ونحن صغار.
ضرب طيران القرية بقوة، نحن لم يهاجمنا اليهود مباشرة، صار في معركة بكابري ومعركة بجدّين بجانبنا، وينزل الفلاحين ليشتروا بواريد، فكان كل 4 أو 5 أشخاص يشتروا بارودة واحدة. فينزلون الى لبنان ليشتروا، ويطلعوا دورية حول البلد. كان يُشاع أنه سيتم الهجوم على جدين، جيش الإنقاذ كان داخل البلد وتمركز فيها. وكان قلعة جدين بين سحماتا وبين ترشيحا، فراح الفلاحين الثوار واستعادوا جدين من اليهود، ولكن الفلاح ليس لديه وقت للبقاء والحراسة، كما قلت، فيحملوا الفلاحون حبالهم ويذهبوا ويسلموها لجيش الإنقاذ.
أي، قبل الثورة وقبل اليهود، أحضروا راديو لرئيس (مختار) البلد إسمه أبو كامل قدورة ووضعوها عنده. كل مدة يعطوا البطارية لأبي ليملئها من ترشيحا، كان في كامب للإنكليز فيملأوها له ويحضرها.
في كثير من الأوقات لم نكن نسمع صوت الراديو لكثرة الناس الموجودة حوله، وعندما ينخفض صوت الراديو كان أحمد اليماني يكتب الأخبار على ورقة ويطلع على السطح يقرأ الأخبار للعالم.
في ثورة 1936، بليلة واحدة قتلوا 36 مختار، اللي كان مبيّن بالقرى يعتبروا خاين. كان الناس تنظم أدوار الحراسة كل 5 أشخاص للحراسة وحولها، مثل محمود عابدي، محمد حسن أيوب، الرجال من جيل والدي هم شاركوا في الحراسة.
وقت قصف اليهود على القرية نحن كنا تحت الزيتون خارج البلد، بلدنا سحماتا كلّها أثار ومغر، المغارات كبيرة كلّها حجارة منحوتة ولها أبواب.
وعندما أشّتد الضرب، وصلت أخبار عن قتل شباب فلسطينين، فصارت الناس تخرج الى لبنان. وعائلات تلحق الأخرى.
خرجنا من فلسطين ونمنا ليلة بالرميش بلد مسيحية وصغيرة كانت، ولا يوجد ماء للشرب ولم نأخذ معنا شيء، ثم ّ وصلنا الى بنت جبيل، كانت اللاجئ يقايض السكان بما أخرج معه حمار أو بقرة بتنكة ماء للشرب وأغراض أخرى.
كان في ناس من الرامة قبل أسبوع وابي عنده بغل، فدفعوا له ثمن 85 ليرة فلسطيني، فقال أبي لهم لا أفرح فيهم، وقال أنا أحصل هذا المبلغ من أجرة النقل عليه. وعندما ذهبنا الى بنت جبيل لحقوه أهل الرامة ليأخذوا البغل ب 15ليرة، فاضطررنا لبيع لأننا نريد أن نشرب.
ونحنا طالعين على الطريق لم نتعرض لضرب أو قصف، كان الدروز مع اليهود، وفي ناس خرجت بين الكروم (مقاطعة) وصاروا الدروز يخبروهم أن من يريد ان يمشي بين الكروم سيقتله اليهود.
صاروا يقولون للناس اطلعوا من فلسطين أسبوع زمان وبترجعوا، هكذا قال لنا جيش الإنقاذ، ولكنها كانت فخ إتفاقية وخيانة من جيش الانقاذ واليهود.
نحنا جاء الينا قبل ما نطلع بـ 10 يوماً مجلِّخ (على دولاب خشب ويجلخ سكاكين ومقصات)، هذه المجلخ أشقر فقالوا عنه يهودي، فإجتمع عليه الشباب وطلبوا منه أن يقرأ قرآن (قل هو الله أحد) فيقرأها أحسن منا نحن، ثم قالوا له إقرأ "قل أعوذ برب الفلق"، فقرأها، فجاء رجل عجوز وهو مرتد عباءة ووضعها بيض رأسه، فقال له انت يهودي إبن يهودي، ولكن لا إن قتلناك سنقتل اليهود ولا إذ تركنا فتكسر من اليهود. فقال العجوز لمختار المسيحية قيصر، أن يأخذ المجلّخ ويطعمه وبعد ذلك يسمح له بالخروج وإبعاده. فأخذه المختار وعشّاه، وقال له صباحاً: أخرج وإرجع.
وقامت الناس صباحا تقول جاء اليهود، جاء اليهود، كان في كم رجل، محمد عبد الرحمن قدورة، مصاب وقالوا إذهب أنت شاب قبل أن يقتولوك وكان خاطباً، فعندما دخل اليهود البلد قتلوه أمام أعين والده.
وعندما تجمعت الناس بالرحبة مسلمّين، جاءت سيارة وترجّل منها رجل عسكري، فسأل الناس،
أين العجوز الذي يضع العباي بنص رأسه، فقالوا له لقد مات، فسألهم أين قيصر؟ قالوا له خرج الى لبنان، فقال العسكري، مازال الرجل العجوز مات وقيصر ذهب الى لبنان، فقالوا للناس أخرجوا لكن إلى لبنان، أتدري من كان هذا العسكري؟ كان المجلّخ!!
في بلدنا لم يسقط شهداء، ولكن واحد من لوبية إسمه فوزي رشيد إستشهد وأحضروه الى الجامع ودفنوه عندنا، ويقولوا إنه بجانب بلدنا (شرمد شمال)، وكذلك استشهد حسن القسطي من الدير.
كانت الناس تدرس زيتون وتعصره، عندما تركنا وخرجنا على لبنان (1948).
إخت زوجتي من خوفها، كانت مخلفة وقت المغرب، وعندما خرجت الناس تاني يوم، أخذت بنتها الأكبر منها وتركت بنتها الصغير حديثة الولادة، خرجوا إلى المغارة، وعنما سألها زوجها عن المولودة فقالت تركتها، أخذت المرباي وتركت المخباي، فقال لها "يا ويلك من الله.. والله لأرجع وأحضرها"، فعاد ووجد البنت فأخذها ومعه بارودة، وهو خارج من البيت قصف الطيران عليه، فإختبأ بجانب مقام، فحماه الله والبنت عاشت، ولكن البنت الأكبر ماتت.
جبش الانقاذ قال لنا: نحن سنحرر البلد، ولكن أنتم إطلعوا وعينوا 10 - 15 يوم فقط، ولو أنه في ناس شجاعة ولا تخاف من اليهود لما خرج أحد من فلسطين. منهم من خرج على الدابة، ومنهم من مشي على قدميه.
أنا لم أحاول أن أرجع إلى القرية، كنا أولادا صغاراً ولم نعي ما نفعل، بالرميش لم يقدموا لنا مساعدات ثم ذهبنا الى بنت جبيل وبقينا 3 أيام، وفي هذه الأيام الوضع مأساوي، اللي معه نقود كان يشتري من السوق. وأذكر أنه تم توزيع خبز، فذهب الناس وصار الدرك يطلق النار على الناس بسبب تدافعهم لأخذ الخبز.
من بنت جبيل جاءت البوسطات وأخذتنا الى بعلبك الى ثكنة غورو. وبقينا هناك 15 سنة، صارت الناس تعمل بأجر متدني جداً بـ ليرة أو بـ 25 قرش.
كانت ثكنة غورو معمرة لتركيا، ثم جاء الجيش الفرنسي وعمّر 3 بنايات فيها، كل بناية طابقين، وعندما جاءت الناس كان في يهود في الثكنة التي ذهبنا إليها، إسمها عمرة اليهود، فأخرجوا اليهود وباقينا مكانهم.
لم يمكن هناك عيادات صحية، كان الصليب الأحمر يحكم الناس، ثم صارت ألأنروا تعمل مطاعم للناس وتوزع إعاشات وخبز وتطبخ للناس.
بعد بعلبك في أيلول 1963 نقلونا الى مخيم "الراشدية"، أبو عماد سعيد حنيفة إبن عمتي ذهب الى سحماتا، فقال إن سحماتا غير مسكونة أهل سحماتا الذين بقوا نقلوهم نحو المزرعة.
من سنة 1952 تم قرار الدولي 194 وينص على عودة اللاجىء لدياره وتعويضه، أنا رأي يمكن ما يعجب أحد، أقول إنه لا حدا من الشعب يريد الرجوع الى فلسطين، لأنه من يجب أن يرجع الى فلسطين، يجب أن يعمل لفلسطين.
لو صح لي الرجوع لأذهب مشياً، لا أريد تعويضاً بهذا العمر، أريد العودة اٍلى بلدي. اليهود عملوا دولة من أموالنا وثرواتنا..
أنا زرت أسواق بنت جبيل قبل 48 مرتين، كنا نحمل حالنا على البغال والخيل، لنأخذ بضاعة، ونبيع بضاعة، كان في إمرأة ضريرة إم حسين، هذه عندها خان للدواب، من يخرج من فلسطين يترك الدابة عندها مقابل أجر، وتنام هناك، وتخرج تشتري بضاعة وتتركها عندها كنا نشتري لحمة وأحذية، وجلال للدواب الذي كان ببنت جبيل لم يكن موجوداً بالبلد، حتى عكا وحيفا كانت بعيدة عنا، ولكن بنت جبيل أقرب مرة اشترينا بصل من هناك.