أنا رحيبة صالح محمد الأسعد من سحماتا جبيلية، وهي مشهورة بالدخان والزيتون والتين، بلد فلاحين. من البلدات المحيطة بسحماتا، دير القاسي، القعيبة، كفرسميع، حرفيش، بين جن، معليا، ترشيحا، يعني بامكانك الذهاب مشياً على كل القرى، فكانت الناس تحطب في الوادي الحبيس، وادي برزة، وكان في نبع بالقواطيع وكان قريب من البلد.
لم يكن في مستعمرات لليهود قريبة من البلد، كانت نهاريا قريبة على ترشيحا. كان في طريق معبدة من عكا إلى ترشيحا، الى سحماتا وتطلع الى دير القاسي، كان في بوسطة من الدير (إسمها بوسطة دلاعة)، تمر في هذه الطريق.
من العائلات في سحماتا بيت موسى، دار حسين، محمد الأسعد، قدورة، دار عامر، الحبشي، وفي مسيحية بسحماتا ايضاً، كان المختار جريس، وأهله واخوته من عائلة قيصر، مختار البلد كان عنده ديوان خاص به. بلدنا فيها الحارة الفوقا والتحتا، الحارة الفوقا لها مختار وهو سعيد العبد موسى، والحارة التحتا مختارها علي صالح قدورة. كل واحد منهم عنده ديوان. أي شخص من الدولة ينزل عند المختار، واي مشكلة عند المختار تحل، المخاتير مسؤولين عن حل المشاكل. كان عمري 13 -14 سنة عندما خرجنا، لم أذهب الى الديوان ولكن الديوان عبارة عن فرش عربي ومناقل نحاس للقهوة.
كان في الرحبة (ساحة) بين الحارة الفوقا والتحتا، وهي مجمع للبلد كلها وفيها دكاكين، وفي الحارة الفوقا مقام الشيخ عبد الله (يُقال أنه كان ولياً)، وفي بلد بجانبنا اسمها سبلان، الذي ينذر نذراً يصعد الى سبلان (مزار).
كان في مدرسة للصبيان، أما نحن الفتيات يرسلوننا الى ترشيحا لم أراد الدراسة منا، مثل إخت زوجة أخي (ابنة خالي محمد) وانا وأختي نركب باصة دلاعة ندرس ونرجع.
أنا درست حتى الصف الرابع، أقرأ وأكتب على الخفيف، أختي لطفية وفايزة وأنا كنا نذهب الى المدرسة، كان في جامع واحد بالحارة التحتا وقد كان كبيراً. والشيخ الشحادة الحبشي كان شيخ الجامع. والكنيسة كانت بداخل البلد أيضاً.
لم يكن هناك فرق بين المسيحي والمسلم، في عيدهم كنا نعيد معهم، وعلى عيدنا يعيدوا معنا، بموسم الاعياد يروحوا كبار البلد يعيدوا جريس، وبعيدنا يأتي هو ليعيد الناس. ولما خرجنا من فلسطين، طلع المختار جريس مع أهل بلدنا، كل أخوته وأخواته بقيوا بفلسطين.
لم يكن هناك عيادة صحية، من كان يمرض يذهب إلى ترشيحا، أما الطبابة العربية والطهور فيقوم بها المطّهر، يحمل شنطة بيده، كل فترة يأتي الى البلد وينادي مطّهر، هو من بيت جن وفي مطهر ببلدنا اسمه عدنان الشيخ. والدايات كانوا كثار، ستي حمدة، ستي سعدية، الحجة فاطمة.
كان لكل بيت بئر، وفي عين خارج البلد، كانت الناس تعبئ من النبع كان بعيد، النساء والرجال كانوا يملؤون على الدواب، وكان في بركتين، واحدة بجانب الرحبة، وبركة عند البيدر اسمها البركة الجوانية، وكانت البقر والدواب يشربون منها وتُسقى مشاتل الدخان أيضاً من البرك.
لم يكن هناك كهرباء بالبلد، ولا يوجد مقاهي، كان في عدة لحامين ولكن ليس لديهم محل خاص مثل أبو قاسم قدورة، محمد سلمون. كان في حلاقين عددهم 2 أو 3 وعندهم محال خاصة بهم.
كان جدي رئيس اللجنة بالبلد كان عنده راديو، الحكومة تحضره له، الناس عندما يريدوا سماع الاخبار يذهبون عند علي العبد رئيس اللجنة، كان في صندوق للأغاني عند ناس مخصصة.
أما الخبز، فكان يُصنع بالبيت، كانت دكاكين القماش والسمانة والخضرة موجودة، يأتي خضرة من الساحل الى بلدنا، بالإضافة الى ما يُزرع عندنا بالحقلة. أما الخياطات كانوا كثر، لم يكن هناك مهن أخرى مثل الحداد والنجار.
كانت البلد مشهورة بزراعة الدخان والزيتون، ثم التين والحمص والعدس والفول والقمح والشعير، كان في بابور زيت وبابور طحين، بابور الطحين كانت الحجة ريا قدورة صاحبته، أما بابور الزيت، كانت من قبل معاصر، ثم شاركت الناس بعمل البابور، درست الناس الزيتون، فيه سنتين فقط وطلعنا من فلسطين.
أهل دير القاسي يأتون ليطحنوا ويعصروا عندنا بسحماتا، كنا ننقل الزيتون على الدواب بالأكياس الكبيرة الى البيت، ثم نجمعه حتى ينتهي موسم الزيتون، ثم يعبئ مرة أخرى ونأخذه الى المعصرة للعصر، كنا ندفع حصة زيت إجرة عصره.
الزراعات الزائدة عن حاجة البلد، مثل الدخان، الناس كانت تورده، الى حيفا وتل أبيب للحكومة، تأتي الحكومة تشتريه والزيتون تعصره الناس ويبيعونه في الشمال لبنان.
كنا ونحن اطفال، أبي كان موظف جمرك مع الانكليز، يأتي الى البلد مرة بالاسبوع، وأرضنا نعطيها لأحد ليزرعها، كنا نذهب لمساعدة ستي لتنظيف البيت.
كنا نعمل بالتطريز مع باقي البنات، نحنوا البنات نعلم بعضنا، يعني في وقت الفراغ، كنا نجتمع البنات ونعلم بعضنا (شغل مكوك وسنارة)، كنا نوصي على الخرز من ترشيحا وكان في واحدة تبيعه ببلدنا.
أبي كان موظف بالجمرك مع الانكليز وكان عنا مهرة حمراء، كل عرايس البلد تركب عليها، كانت العروس يطلعوها على الفرس.
أبي كان من وجهاء البلد، وكان المختار علي صالح ومحمود صالح وصالح الاسعد، المختار جريس، وسعيد العبد كانوا يحلون مشاكل البلد، مثل مشاكل طلاق وبالافراح دائماً يكونوا موجودين.
خالي كامل علي قدورة، كان شاعر وحدّي، عندما ذهبنا الى فلسطين بالإشتياح عام 1982، قلت لخالي أريد تسجلي شريط، فقال لي لا أستطيع الآن، ولكن عند عودتنا الى لبنان، سجلي شريط وبعثه لي.
كان يتواجد في أعراس البلد، وكانت الاعراس خارج البلد تدعوه لإحياء الأفراح فقط، كان حدّي وشاعر.
لم يكن مخفر للشرطة بسحماتا ولكن كان موجودا بترشيحا، عندما تقدم شكاوى، تطلبه الحكومة على المخفر بترشيحا. أما شهر رمضان، النساء تحضر للشهر مثل الآن، ولكن الفلاحين كانت زمان مبسوطة، وبالعيد كنا نعمل كعك مثل هذه الأيام، كانت الناس تعمل كعك لمدة أسبوع، وقبل العيد بأسبوع، تغسل وتعمل كعك، وتجهز حالها وخياطة ملابس. أنا كنت ألعب مع البنات بالعيد لم يكن في ملاهي مثل اليوم. كانت الرحلة طويلة جداً لأنها على الدواب، وإستقبالهم كان بالتهليل، ويحضر الحاج هدايا بسيطة مثل تمر وماء زمزم وبخور.
بالنسبة للعرس، مهر العروس، كانوا يكتبوا مؤخر زيتون، أو شقفة أو أرض، ويعطوا العروس نقودا لتجهز، كانت العروس تنزل على عكا تجهّز، تشتري قماش وتخيط بترشيحا.
كانوا العرايس يذهبون إلى المحكمة، كانت العروس تطلّع خزانة وفراش وفرشات صوف ولحف، والخزانة يشترونها من عكا.
كانت الأعراس لها هيبتها، العروس، كانت تنعزم عند ناس، بالليل تروح عند بيت العزيمة، يحضروا فرس ويطلعوها عليها، ثم يأخذوا الحنا، ويرقص الناس ويغنوا، ثم صباحا" تروح عند دار العزيمة لتتحمم، ويلبسوها العميمة فوق البدلة البيضاء، وتحمل منديل وهي عالفرس واخوها يمسك يدها والناس حولها تغني والشباب (يحوروا) يغنوا لعند العريس.
أما العريس فكان يذهب عند أحد يعزمه للحلاقة والحمام فيرقصون له ويغنون ثم يأخذونه الى البيدر، والناس تدبك كل النهار. يبقى على البيدر للعصر وبعد ذلك يركبوا على الفرس ويبخروا العريس ويحضروه على الرحبة، حتى تأتي العروس من عند بيت حماها، أما العريس يؤذن له ويدخل للعروس، ويكشف وجهها للعروس وتبوس له يده.
كانوا يغنوا للعريس وهو يحلق:
احلق يا حلاق الموس الذهبية... وتأنى يا حلاق تايجي القرايب.
والعروس كانت تبكي عند خروجها من بيت أهلها. كانوا يقولوا للعروس:
افتح لنا يا صاحب البوابة إفتح لنا بالقوس والنشابة
بوابتك واقف لها حراسة واسهر عليها تنام الناس
واسهر عليها من ضرب الرصاص ...
والشباب يحوربوا ويقولوا:
كلينا نحن الصابرين يا زينة وصلت جدها
ربعي المجيدي خدها وريش النعام شعرها
كان في مقبرة بالبلد، كانت فوق البركة الجواني، من الغرب. العزاء 3 ايام لعزاء اهل الميت، وكانت في ختمة الثلا ث أيام وكان في ختمة الأربعين يوم وبالنسبة للحج وموسمه، كانت الناس تروح عالجمال والدواب، وقبل ذاهبهم كانت قبل يومين تروح تهلل للحج.
قبل دخول اليهود على البلد، كانت الناس تشتري السلاح، أبي كان مسلح من الدولة، مثلاً السلاح كان خفيف وكانت تحدث معارك بجدين بجانب نهاريا. كان يروح شباب البلد نجدة، مثل يهودي شحط بالسيارة من جديد الى بلدنا سحماتا، وكان في بئر السعران، بئر مهجور بابه مكشوف وحرقوا اليهودي في البئر وسلمه لهم، فغضب اليهود على بلدنا، فجاءت الطائرات أول يوم ضربت البلد بالقلعة وقتلت إمرأة إسمها موزة زوجة أسعد نمر، وضربت بالعبية وتصاوبت بدر، وضربت جدار الشيخ محمود الحبشي، جاءت القديفة بالتبان وحرق التبن والقبان. فهربت الناس واختبأنا بكروم الزيتون (كرم شحادة) للغرب وبالليل كان أبي له صاحب من رميش يوسف حرفوش طلعنا من كرم شحادة بالليل مشيا الى رميش، أخذت معنا كل الليل ووصلنا الصبح، فدخلنا عند يوسف حرفوش وبقينا عندهم.
وفي اليوم التالي قال أبي أريد أن استأجر في بنت جبيل، فأستاجرنا هناك ولم يكن هناك ماء حلوة. ثم أخذوا الناس الى صور، فذهبنا الى صور وكان في شوادر منصوبة، ولكن والدي لا يريد البقاء في الشوادر، فاستأجرنا ببرج الشمالي.
المختار علي صالح كان متخاوي هو وأبي، إستاجرنا نحن ببرج الشمالي لمدة شهر، ثم ذهبنا على حوران بسوريا. فهذه الفترة كنا ننفق من نقود والدي، كان قد تقاضى تقاعده لأنه كان موظفاً بالدولة.
ثم نقلوا الناس من صور الى بعلبك، فذهب أبي والمختار الى بعلبك لرؤية أهل البلد، فعندما وجدوهم كلهم فرجعنا نحن على بعلبك. بقينا 15 سنة ببعلبك، ثم نقلونا على الراشدية.
أذكر ونحنا خارجين من فلسطين، ظل محمد قدورة، وعبد الرحمن قدورة بالبلد، أطلقوا النار عليه أمام والده. وهناك شخص من بيت عبد الوهاب (سلمون) قُتل، وموزة قتلت بالطيران.
وفي سنة 1982 م، عدت إلى سحماتا، ذهبنا وتركنا أبنائي الشباب بلبنان، وبقينا بفسلطين أنا وبنتي خمس أيام فقط، وعندما رجعنا، بناتي الإثنتين ذهبتا إلى فلسطين مرة أخرى.
لم نرى اليهود بالبلد، إلا واحد حينما تحدث مع خالي عندنا فقال له خالي: بنت أختي وبنتها جاءوا من لبنان، صار يضحك الإسرائيلي، ودخلنا.
كان بيتنا مدّمر، عرفت كل البيوت رغم أنها مهدمة، وكذلك الجامع والكنيسة. حائط الكنيسة خلف بيتنا كان بعده واقف وكذلك الجامع. وخالي أيضاً جاء الى البناية زيارة ورجع على فلسطين وهو كان بالراحة (كلها مسيحية ودروز).
اذا استطع العودة الى فلسطين بكل تأكيد أعود، الوطن غالي، الذي ليس له وطن ليس له دين، فهو عزيز، مستعدة أن أترك كل شيء هنا وأذهب الى فلسطيني.
كل مالنا وتعبنا بلبنان كثير وما زال اسمنا لاجئين، كيف ما بدك تحب وطنك!!!