ياسر قدورة وجورج بيادة
توغلنا في شوارع وزواريب بيروت برفقة حفيدتهما جنى معروف، إلى أن وصلنا إلى ابن ترشيحا، التسعيني الشاب عبد الرازق عبد الوهاب القاضي، مواليد 1922، وزوجته مكرم عاطف القاضي ابنة ترشيحا في العام 1926.
كنا نخشى أن نتسبب لهما بالإزعاج في زيارتنا الليلية، ظانين أن فكرة الحديث عن البلاد التي فارقوها قبل أكثر من 65 عاماً قد أصبحت مملة بالنسبة لهما من كثرة ما رددوها وخاضوا في تفاصيلها.. إلا أن الواقع كان خلاف ذلك، إذ كانا بانتظارنا ومستعدين لحوار طويل سارعا هما لافتتاحه بالحديث عن ترشيحا وجوارها، فطلبنا منهما التريث لحين الانتهاء من بعض الاستفسارات عن شجرة عائلة القاضي.
سارت الأمور بسلاسة، خاصة أن والد عبد الرازق كان وحيداً وله 4 أخوات، وكذلك والد مكرم كان وحيداً وله أختان، فجمعنا منهما بعض التفاصيل اللطيفة.
مضيفانا، أبو عبد الوهاب وأم عبد الوهاب، كانا جيراناً في الصغر في ترشيحا، أبوه وحيد وأبوها كذلك، جده وجدها إخوة، جده عبد الرازق كان من وجهاء البلد وعمل قاضياً لسنوات في الموصل، وجدها محمود كان وجيهاً ومن أصحاب الأملاك وهو من قدم قطعة أرض لإقامة كنيسة الروم الكاثوليك عليها.
باختصار كانا يعيشان حياة رغيدة ومريحة في ترشيحا، فمكرم درست في مدرسة ترشيحا حتى الصف الخامس، وتضحك عندما يصر عليها زوجها وابنتها بأن تخبرنا بأنها كانت تحرز المرتبة الأولى في صفها، وكأنها لا تريد أن تفاخر بنتائجها بعد كل هذا العمر.. وعندما كبرت لم تكن مضطرة للعمل ولم تكن مشاركتها في أعمال شك الدخان أحياناً إلا من باب التسلية.. أما عبد الرازق فقد اشترى أسهماً في شركة لنقل الركاب بالباصات والسيارات في عكا، ولا يزال يحتفظ بصورة له وهو يتكئ على أحد باصات الشركة وهو متوقف أمام مكتب الشركة في عكا المجاور لسجن عكا الشهير..
كانا يعيشان حياة سهلة مرفهة، وأبوهما أبناء عمومة وجيران، فجاءت خطوبتهما كأمر طبيعي ودامت خطبتهما 3 سنوات، وعندما اقترب موعد الزفاف كانت تذهب مكرم إلى خالها المقيم في القدس ليرافقها في اختيار أثاث بيتها الجديد. تزوجا وكان عرسهما شبيهاً بالأعراس الملكية، استمر 7 أيام ولياليها، واحتشد فيها الأهل والأقارب والأصدقاء والوجهاء.. لا مبالغة في الحديث، فالعريس عبد الرازق لا يزال يحتفظ بمجموعة من صور عرسه الذي
أقيم على أرض ترشيحا عام 1947.
تزوجا وسكنا في دار أهله الواسعة، وما هي إلا أشهر حتى رزقهما الله بالمولود الأول "سناء"، ولكن الفرحة لم تدم طويلاً فبعد شهرين بالتمام كانت أطراف ووسط ترشيحا تتعرض للقصف بالطيران.. والزوجة مكرم، تقر حتى الآن أنها تخاف وقلبها لا يحتمل المواقف الصعبة، فطالبت بالرحيل عن البلد وهكذا كان.
خرج عبدالرازق وزوجته مكرم سيراً على الأقدام حاملين معهما سناء، ولكن الأقدار ساقت لهما سيارة أجرة يقودها أحد معارف عبدالرازق بحكم العمل مع شركة النقل، فنقلهما إلى بنت جبيل في لبنان ومكثوا هناك يوماً واحداً ثم توجهوا إلى بيروت، ولا يزالان فيها حتى اليوم.
بعد أكثر من 65 عاماً من النكبة، يعيش أبو عبد الوهاب وزوجته في بيت عامر في بيروت، بينما بيته في ترشيحا قد تعرض للتفجير على يد العصابات الصهيونية، وبدلاً من سناء الوحيدة التي رافقتهما في رحلة الخروج، صار لهما: سناء، وعبدالوهاب، وسامية، وسمر، وعماد وعاصم، إضافة إلى عدد من الأحفاد.
يقول أبو عبد الوهاب أن الشعب الفلسطيني قد خرج من فلسطين بهزيمة عربية ومؤامرة دولية، ولكن الشعب الفلسطيني " طلع قوي.. قدها وقدود" .. مشيراً إلى صمود هذا الشعب وإصراره على التعلم والبناء والتمسك بالحقوق.. ويسوق لنا أبو عبد الوهاب في معرض الحديث قصةً عن الأقدار التي جعلته يتقرب من الرئيس عبدالله اليافي بحكم عمله، فسأله الرئيس مرةً إن كان يحتاج لأي نوع من المساعدة، فشكر له مبادرته.. ثم سأله الرئيس إن كان يريد الحصول على الجنسية اللبنانية، فأجاب أبو عبد الوهاب أنه يريد العودة إلى ترشيحا..
قالها قبل عقود ويقولها اليوم، يريد العودة إلى ترشيحا ولو حافياً.. لن يستطيع أحد أن يدفعه للتخلي عن حقه بالعودة، أو أن ينكر عليه حقه وانتماءه لترشيحا، فهو لا يزال يحتفظ بصوره في عكا، وصور زفافه في ترشيحا، بل لا يزال يحتفظ برخصة االقيادة التي حصل عليها في العام 1947.. هي وثائق تؤكد الرواية، ولكن الذكريات التي يرويها أبو عبد االوهاب والتفاصيل التي تضيفها أم عبد الوهاب هي التاريخ الذي يشهد أن عصابات مسلحة اقتحمت البلاد فقتلت أهلها وسرقت أرضها وشردت أبناءها، ولكنهم لا يزالون يروون الحكاية لأبنائهم وأحفادهم حتى يعودوا إليها في يوم من الأيام. وعسى أن يكون قريباً.