العربي الجديد
بيت لحم - فاطمة مشعلة
27 يناير 2020
لم يكن صليبا سلامة يعرف أن نهاية رحلة تهجيره وعائلته، من منطقة تُدعى "جبلية" في مدينة يافا بالداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، ثم نابلس شمال الضفة الغربية، إلى مدينة أريحا شرقاً، ثم بيت لحم جنوباً، سترافق ذكريات ملايين الزوار الفلسطينيين والسياح الأجانب، منذ العام 1948، في المطعم الذي التصق اسمه ببيع الفلافل. لقد أراده صليبا مكاناً مؤقتاً؛ لكن الاحتلال الإسرائيلي أراده للأبد، فلم يرجع صليبا إلى يافا، وبقي مقلى الفلافل في بيت لحم عامراً إلى اليوم.
في إحدى زوايا ساحة كنيسة المهد أو (باب الدير) التصق اسم طلوع شارعٍ يفصل الساحة عن شارعٍ آخر، باسم "طلعة أفتيم" وأفتيم هو اسم المطعم الذي أسسه صليبا سلامة وأبناؤه الستة، في رحلة اللجوء خلال نكبة العام 1948، والأبناء هم: يعقوب وتوفي صغيراً في يافا، وأفتيم واسم المطعم على اسمه، ونعيم، وبشارة، وفاروق، وبطرس وهو الوحيد المولود خارج يافا بعد التهجير؛ ليعيل بالإضافة إليهم، زوجته نعيمة وبناته الست: آليس، وفريال، وبديعة، وفيوليت، وسلوى، وهيلانة اللواتي تزوجن وهاجرن خارج فلسطين.
لقد كانت رحلة مطعم اليافاوي أفتيم، مثل رحلة صاحبه صليبا، في التنقل وعدم الاستقرار في ثلاث محطات، حيث يقول جورج بشارة سلامة، وهو أحد أحفاد الجد صليبا لـ"العربي الجديد"، والذي يعمل فيه منذ 41 عاماً، إن جده اضطر لإغلاق فرنه في يافا خلال النكبة، ثم أسس "كشك فلافل" في ساحة كنيسة المهد في بيت لحم؛ وقد خطر في باله بيع الفلافل؛ لأنه لم يكن أحد في بيت لحم آنذاك يصنعها ويبيعها، "ما زال مشهد حمل أحد رجال بيت لحم لصينية فلافل على رأسه، بعد شرائها من المطعم، عالقاً في رأسي"، يقول جورج.
بعد إنشاء "الكشك" بسنوات، وتعمير ما حول المكان بـ"الزينكو" (الصفيح) وبعض الإسمنت، وفي فترة ما قبل العام 1968، أي زمن الحكم الأردني، أُصدر أمر بهدم بعض المباني القديمة في ساحة الكنيسة، لذا عملت العائلة على بناء محلٍ بالقرب من الساحة أيضاً، وبقي فيه المطعم حتى العام 1998.
طردت العصابات الصهيونية صليبا وعائلته من يافا كما بقية الفلسطينيين، لكن أفعال الاحتلال لاحقت أبناءه وأحفاده في مصدر رزقهم، إذ يقول علاء فاروق سلامة (في الثلاثين من عمره) وهو أحد أحفاد صليبا: "بعد أن توفي جدي صليبا منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حاصر الجدار المدينة السياحية، والحواجز ازدادت، وفرضت القيود على دخول الفلسطينيين ممن تبقوا في أراضي 1948 إلى الضفة الغربية، لقد اعتبرنا الفترة الذهبية لعمل المطعم حتى العام 1998، فهي الأكثر انتعاشاً على مستوى السياحة في بيت لحم".
انتقل مطعم اليافاوي بعدها إلى مقره الحالي، وهو الثالث، في جهة ثانية من ساحة المهد، لكن المكان الأول رسخ ذكرياته في وجدان الستيني جورج سلامة، حيث يقول لـ"العربي الجديد": "بعد المدرسة كنت أذهب فوراً لمساعدة جدي وأبي وأعمامي في مطعمنا، أقوم بأعمال التنظيف في المطبخ، برفقة ابن عمي صليبا، وسابقاً كنا نضع مقلى الفلافل على (البابور) التقليدي الذي استخدم لطهي الطعام وتسخين الماء، وكان صوته ممتعاً بالنسبة لي ولافتاً بالنسبة للناس".
ارتبط اسم مطعم "اليافاوي" أو "أفتيم" كذلك بذكريات طلبة المدارس قديماً، فقد كانت وجبة الفلافل أكثر شعبيةً من الآن كما يوضح علاء سلامة، الذي يقول لـ"العربي الجديد": "أخبرني أبي أن أهالي طلبة المدارس كانوا يدفعون حساب وجبات أبنائهم الطلاب من الفلافل والحمص شهرياً، إذ كان دوام المدارس أطول زمنياً، وكان الطلبة يتوجهون في الاستراحة لتناول الغداء في مطعمنا، وجزء كبير منهم هاجر إلى أميركا اللاتينية، وعندما يعودون إلى بيت لحم اليوم، يخبرونني بذكرياتهم في المطعم وعن مشهد جدي صليبا، وهو يُقشر فصوص الثوم أمام المحل تمهيداً؛ لإضافتها لخلطة الفلافل".
كانت الأربعينية جاكلين نعيم إحدى حفيدات صليبا سلامة، تتنكر في زي الصبي في فترة عملها في المطعم من عمر 7- 14 عاماً، إذ تقول لـ"العربي الجديد": "كنت أحب التنكر في هيئة الصبي بعد عودتي من المدرسة، وتوجهي للعمل في المطعم، وكان الكل يُناديني جورج، وكانت أحلى أيام، تلك التي كنت أساعد فيها أخوتي، وبعد أن تزوجت انقطع عملي، ثم عملت عملاً آخر عندما كبر أطفالي، لكني لم أسعد به، ولأن ذكريات المطعم ظلت في البال، عدت لمساعدة أبناء عمومتي في المطعم".
جذب المطعم الشعبي الذي بات أحفاد صليبا سلامة يُعرفون بسببه بعائلة "أفتيم"، ويتشاركون ملكيته وإدارته بل ومهام العمل فيه بعد وفاة الأبناء الستة للجد صليبا، العديد من الشخصيات المعروفة، مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون الذي تناول الفلافل في مطعم اليافاوي- أفتيم عام 2014.