(شيخ مشايخ جبل الخليل في أواسط القرن التاسع عشر، وزعيم صف القيس في تلك المنطقة. ورث زعامة المنطقة عن أبيه الشيخ عيسى، وقام بدور مهــم في الأحداث التي شهدتها فلسطين في تلك الفترة. وفي نهاية الخمسينات عقدت الدولة العثمانية عزمها على القضاء على الزعامات المحلية شبه المستقلة، فاعتقـل عبد الرحمن مع آخرين وأبعدوا جميعاً إلى جزيرة رودس.)
ورث عبد الرحمن العمرو مشيخة ناحية جبل الخليل عن والده الشيخ عيسى في أواسط العشرينات من القرن الماضي. وبعد القضاء على جيش الإنكشارية، حاولت الدولة العثمانية تثبيت حكمها المباشر في ولاية الشام ونواحيها. ففي الأيام الأخيرة من سنة 1827 «حضر عبد الرحمن العمرو إلى مجلس الشرع الشريف وأقر واعترف وأشهد على نفسه أن يكون دائماً منقادا للشرع الشريف ولأوامره جناب المتسلم المنصوب بمدينة السيد الخليل. وأنه إن حصل منه أدنى حركة أو فساد أو أمور مغايرة، أو إذا حصل في المدينة خلل أو هجموا على المتسلم أو خرجوا من تحت حكمه وقوله.. فيكون عنده ولازم ذمته بطريق النذر الشرعي لخزينة الدولة العلية مبلغ قدره مايتي ألف غرش أسدي.» لكن على الرغم من ذلك الوعد الذي قطعه عبد الرحمن على نفسه، عاد إلى التعرض لرجال الدولة في المنطقة، محاولاً المحافظة على زعامته وحكمه المستقل في المنطقة. وبما أن ولاة الشام كانوا ضعفاء ومشغولين في معظم أيام السنة بشؤون الحج الشامي، فقد حافظ الشيخ عبد الرحمن على استقلاله ونفوذه منذ أواخر العشرينات حتى مجيء الحكم المصري.
وتغيرت الأوضاع السياسية والإدارية في فلسطين بعد احتلال جيوش محمد علي لها. فالحكم الجديد لا يقبل المشاركة، ويعمل على بسط حكمه المباشر والفعلي في المدن والأرياف. ولم يستطع عبد الرحمن العمرو التأقلم مع شروط الحكام الجدد، فانضم إلى ثورة سنة 1834، التي كان جبل الخليل أحد معاقلها. وكبد الثوار الجيش المصري خسائر فادحة، وربحوا بعض المعارك. لكن إبراهيم باشا جلب الإمدادات العسكرية من مصر، ونجح في إخماد تلك الثورة. فانحسب عبد الرحمن العمرو وأعوانه إلى منطقة الكرك. ولم يستطع الحكم المصري القبض على عبد الرحمن الذي اضطر إلى العيش عدة أعوام مستتراً بين العربان خوفاً من أن تطاله يد الدولة المصرية.
وعاد عبد الرحمن العمرو إلى جبل الخليل ثانية في أواخر الثلاثينات. وتجددت بذلك نزاعاته مع رجال الدولة المصرية. ففي ربيع الثاني 1255ه/29 حزيران (يونيو) 1839م، شكا محمد آغا الزين، متسلم الخليل، تأخر الشيخ عبد الرحمن عن دفع الأموال الأميرية المطلوبة منه، وأنه توجد أسلحة لدى الفلاحين الذين هم تحت إشراف الشيخ علي درويش والشيخ حسن نمورة. ولذا قام المتسلم المذكور باعتقال الشيوخ الثلاثة، طالباً منهم تسليم الأسلحة وتسديد جميع الأموال المتأخرة إلى خزينة الدولة. ورفعت هذه الدعوى إلى أحمد آغا الدزدار، متسلم لواء القدس، للتحقيق فيها. لكن الشيخ عبد الرحمن فر من سجنه قبل النظر في دعواه، وأعلن العصيان في قريته بدوره، هو وجميع فلاحي وعربان تلك الناحية. وحاول متسلم القدس التدخل لحل الخلاف سلماً وحقن الدماء، لكن من دون نجاح. وعندها أصدرت القيادة المصرية العليا الأوامر إلى عيسى آغا، متسلم غزة، بأن يقتل الشيخ عبد الرحمن في حال قدومه إلى غزة ونواحيها. ولم تستطع السلطات المصرية القبض على عبد الرحمن لأنه التجأ إلى حلفائه في شرق الأردن.
ولم تطل مدة لجوء عبد الرحمن هذه المرة، ففي سنة 1840 بدأت عملية انسحاب القوات المصرية من بلاد الشام. وأرسل السلطان عبد المجيد كتاباً إلى عبد الرحمن، مثل غيره من أعيان فلسطين، يطلب منه المحاربة إلى جانب جيوش السلطان. فدخل عبد الرحمن وأعوانه مدينة الخليل، وقتلوا متسلم المدينة، وأعلنوا العصيان ورفع راية السلطان. كما ساهم عبد الرحمن وأعوانه في محاربة القوات المصرية، ومناوشتها وعرقلة طرق انسحابها. وكافأته الدولة العثمانية على دوره هذا فعينته محصلاً للضرائب في ناحية جبل الخليل. لكن عبد الرحمن فرض ضرائب باهظة على السكان، وكثرت الشكاوى من ظلمه وتعدياته. كما حاول الإستقلال بحكم جبل الخليل، فنقم العثمانيون عليه وقرروا التخلص منه.
وفي سنة 1846 قام قبرصلي باشا، متصرف القدس، بحملة تأديبية على عبد الرحمن العمرو، بالتعاون مع بعض الزعماء المحليين من خصومه، ونجح فعلاً في القبض عليه ونفيه من المنطقة. لكن مدة غيابه عن المنطقة لم تدم أكثر من عامين، إذ عاد إلى جبل الخليل وإلى سابق أعماله في التعدي، ومضايقة الأهالي والمسافرين، وفرض الضرائب الباهظة عليهم في مقابل حمايتهم. وازدادت الشكاوى عليه مجدداً وانضم إلى هؤلاء الشاكين قناصل الدولة الأوروبية في القدس، وعلى رأسهم قنصل بريطانيا جيمس فين. وصدر فرمان السلطان عبد المجيد سنة 1852 بالقبض على عبد الرحمن ومعاقبته. وفعلاً تم القبض عليه، وسُجن هذه المرة في القدس. لكنه نجح في الهرب ثانية، وعاد من القدس إلى جبل الخليل وأعلن التمرد والعصيان علناً في ناحية الخليل، استمر، مع إخوته وابنه إسماعيل، في تحدي السلطات العثمانية مدة طويلة. وكانت الدولة مشغولة بحرب القوم فلم ينجح ولاة القدس في ردعه وقمع عصيانه. واشتهر عنه قوله في تلك الفترة «عبد المجيد سلطان في الآستانة وأنا السلطان هنا (في الخليل).» وحاول حكام القدس عدة مرات القيام بحملات عسكرية للقضاء عليه لكن من دون نجاح. وهكذا استطاع عبد الرحمن أن يحكم المنطقة، ويناور السلطات العثمانية عدة أعوام. فكان ينسحب إلى الصحراء ويلجأ إلى أقاربه وحلفائه في شرق الأردن عندما يدهمه الخطر، ثم يعود ليفرض سلطته مجدداً في ظل غياب هيبة الدولة وقوتها في المنطقة. وبعد انتهاء حرب القرم، قررت الدولة إجراء إصلاحات فعلية في حكم الولايات العثمانية. وكانت أول خطوة في هذا السبيل إعادة السلطة الفعلية إلى أيدي الحكام الأتراك. فقام ثريا باشا، متصرف القدس (1858-1862)، سنة 1859 بحملة عسكرية كبيرة لإخماد العصيان في جبل الخليل. وبعد أقل من أسبوع في مطاردة الثائرين تمكن الباشا من القبض على الشيخ عبد الرحمن وأخيه سلامة، وأرسلهما إلى الآستانة. ومن هناك نفيا، كما يبدو، إلى جزيرة رودس، فهدأت المنطقة بعد ذلك، وانتهى بذلك حكم آل العمرو شبه الإقطاعي على الخليل ونواحيها.
أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني
عادل مناع