
عندما عاد والدي من رحلة الحرب العالمية الأولى (سفر برلك) لم تصدق عائلته نجاته، وعودته سالمًا، والدي الذي فقد أولاده تباعًا بسبب الجوع والبؤس والمرض الذي لحق بالمدينة بعد تلك الحرب الطاحنة، كانت حياتي وبقية أخوتي حينها مثل معجزة بالنسبة له، عاش والدي يوزع وقته في حارة القزازين بين مسجدها القديم ودكانه، حانوته الذي استقبل لعقود طويلة، طوال أيام الصيف الفحم من حلحول وتفوح، كان يخزنه ويبيعه في الشتاء للناس، من أجل إتقاء برد المدينة القاسي، وصناعة الكنافة التي كانت تتم على الفحم تلك الحقبة، والدي الذي عاش البرد في الحرب ودفن أبنائه، كان يملك في دكانه الكثير من الخشب والفحم، حتى توفي نهاية الخمسينيات وهو موبوء بأحلام لم تتحقق.
المدينة القديمة التي عشت فيها ومشيت في شوارعها، تختلف كثيرًا عما أصبحت عليه اليوم بفعل الاحتلال والاستيطان، ومحاولات الاحتلال المستمرة لتهجير الناس، هذا الألم لمسته في بداياته، حينما كنت أمشي إلى المدرسة كل يوم في منطقة باب الزاوية، طوال الطريق وبشكل شبه يومي كنت أرى المظاهرات وهي تخرج تنديدًا بسياسات الاستعمار البريطاني وتنكيله بالناس، وحمايته للمشروع الصهيوني الذي بدأ يولد من رحم معاناتنا، آتذكر مدرساتي (نجلاء قسيس وندية رصاص و لطفية الجردلي) وغيرهن العديدات، وأتذكر السيدات اللواتي تعلمت عندهن الخياطة في الصيف، تلك المرحلة المهمة في حياة كل فتاة ستكون مسؤولة عن بيت في يوم من الأيام، أتذكر معارك النكبة التي اندلعت بعد صدور قرار التقسيم عام 1947م.
في أحد الأيام ضمن معارك النكبة التي تمركزت في الخليل في منطقة كفار عصيون والقدس وقرى الخط الغربي، خرجت أمي تركض وأنا ورائها لاهثة باتجاه المشفى الانجليزي (مارلوقا) حيث وصلنا خبر بكون شقيقي أحد المصابين في المعركة، لا أنسى حتى اليوم تلك الشاحنة المحملة بالجثث والأجساد المصابة المتراكمة فوق بعضها البعض، لازالت رائحة الدم في حواسي حتى الآن، كان شقيقي حينها مصابًا بقدميه الاثنتين، وبقي الرصاص المتفجر ينقش آثاره على فخذيه حتى آخر عمره.
عندما تزوجت عام 1951م انتقلت لبيت زوجي في شارع بئر السبع، هذه المنطقة المطلة على الخليل القديمة التي بدأت تتوسع نحو الشمال والغرب، هذه المنطقة التي كان للحركة الصهيونية أطماع صهيونية فيها، حيث كان يأتي اليهود الصهاينة المتنكرين بزي العرب من أجل تفحص بعض البيوت والمقبرة القديمة في تل الرميدة، هذه المناطق التي حولها الاحتلال لمستوطنات ومواقع يهودية بعد احتلال المدينة عام 1967م.
جانب قصير من اللقاء الممتع أول أمس الأحد 22\6\2025 مع السيدة بديعة علي أبو شكر مواليد مدينة الخليل عام 1935م، الشكر موصول لها ولعائلتها على حسن الضيافة والاستقبال.
المصدر: نادي الندوة الثقافي
24/06/2025

