أبو محمد مشينش لن يغادر بغداد إلا إلى فلسطين:
لم يجرؤ الصهاينة على دخول القرية إلا بعد أشهر من خروجنا منها
«الحاج أبو محمد»، شوكت سعيد إبراهيم مشينش، مجاهد ومثقف يمثل مرجعية لأبناء قريته وقدوة لهم بالسلوك والممارسة، وهو أحد ضباط جيش التحرير الفلسطيني في العراق الذين دفعوا ضريبة صدقهم وإخلاصهم وتفانيهم في سبيل قضيتهم، صمد ولم يغادر بغداد حتى في أصعب الظروف وأحلكها، وهو يؤمن تماماً بأن فلسطينيي العراق هُجّروا وطُردوا وذُبحوا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 لسبب واحد ووحيد، فقط لأنهم وُلدوا فلسطينيين، قالها بجرأة أبناء قرية إجزم وبحزم وعزيمة: «إذا كان هناك ثمة خروج ومغادرة من بغداد فيجب أن يكون ذلك إلى فلسطين وإجزم تحديداً».
خلال زيارته التفقدية لأبناء قريته وذويه في مخيم اليرموك في العاصمة السورية دمشق، والتي اقتصرت على بضعة أيام، انتهزنا فرصة اللقاء به قبيل ساعات من عودته إلى بغداد، فكان هذا اللقاء الذي استمر لمدة تقارب الساعتين ودونما توقف، فهو لا يُتعبه الحديث عن فلسطين.
ولد الحاج أبو محمد مشينش عام 1932 في قرية إجزم - قضاء حيفا؛ هذه القرية التي شكلت مع قريتي جبع وعين غزال ما سُمي «المثلث الصغير» في جنوب حيفا، حيث صدت القرى الثلاث عدداً من الهجمات الصهيونية، وشكلت جيباً لم تتمكن العصابات الصهيونية من احتلاله إلا في نهاية تموز يوليو 1948. وهذه القرى الثلاث لم تصمد فحسب؛ بل واصلت منع حركة مواصلات العدو الصهيوني على امتداد الطريق الساحلي. وحسبما قال الحاج أبو محمد فإنه كان لأهل قرية إجزم نصيب من اسمها، فقد سُميت القرية بذلك كناية عن العزم والحزم والجرأة في اتخاذ القرارات، وكذلك كان أبناء القرية في مقاومتهم للعصابات الصهيونية التي ارتكبت بحقهم مجزرة بشعة وصفت بأنها من أبشع المآسي التي وقعت في فلسطين.
حدثنا الحاج مشينش عن قريته فقال: هي قرية جبلية يحدُّها من الشمال مدينة حيفا ومن الشرق قرية أم الزينات ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط، وقرية عين غزال ويحدها من الجنوب مستعمرة زمرين، هواؤها جميل وأرضها خصبة تسكنها عائلات أبرزها البلابطة والعزايزة وزيدون ودار ماضي، طرقُها كانت ترابية وأهل القرية بتعاونهم وتضامنهم قاموا بتعبيد الطريق التي تمتدّ خمسة كيلومترات من الشارع الرئيسي الذي يربط حيفا ويافا بالقرية، ونظراً لحب أهل القرية للعلم والتعلم، فقد شيّدوا مدرسة نموذجية تتألف من سبعة صفوف؛ من الصف الأول حتى الصف السابع، وتعلم فيها أبناء القرية على يد معلمين من القرية نفسها، أبرزهم المعلم توفيق مراد والمعلم محمد البشير، وكانت فقط للذكور وقبل مغادرة القرية بفترة أُنشئت فيها صفوف للإناث، وفي عام 1939 نُظّم في المدرسة صفٌّ لمحو الأمية.
ويضيف الحاج: «كان وضع القرية هادئاً حتى ثورة 1936، حيث أصبحت محط أنظار الإنكليز بسبب وجود مجموعات من الثوار الذين ثاروا بسبب تعسف الانتداب البريطاني. فقد كان البريطانيون يفتشون الناس ويصادرون السلاح من أي بيت، وكان إذا شخص ذهب شخص إلى الحلاق ووجدوا بجيبته شفرة يحكمون عليه بالسجن ستة أشهر، وكانوا يضيّقون على الأهالي من الناحية الاقتصادية ويفرضون الضرائب الباهظة حتى يعمّ الفقر في البلد.
في حرب 1948
يتابع أبو محمد قائلاً: ظلت الثورة في مدّ وجزر ولم تتوقف المناوشات حتى عام 1948، حيث كان عمري وقتها 16 سنة وشاركت في الحرب وكان معي بندقية، ودخلت عدة معارك وبقينا صامدين إلى آخر لحظة، وكان أهل القرية صامدين، وكانت تجري يومياً معركة أو معركتان، وكنا نوقع الخسائر بهم.. لقد كنا موحَّدين فكان صمودنا رائعاً، وكان معنا الجيش العراقي الذي بقي ثلاثة أشهر معنا يمدنا بالمواد التموينية وبعض الذخيرة.
إلى أن ضغط علينا الصهاينة بعد أشهر من النكبة براً وجواً، وقُصفت القرية بالطائرات واستُشهد ما يزيد على عشرة من أبناء القرية، وجرح العشرات في هذا القصف، وكان ذلك في رمضان وبعده بقليل.
اللجوء
نتيجة لهذه المجزرة، وما سمعناه عن مجازر أخرى وقعت في القرى المجاورة، وكلمة مجزرة قد لا تكفي لوصف ما حدث فعلاً، فهل يُعقل أن يُجمع النساء والرجال والشباب في صفوف، ومن ثم تُطرح النساء الحوامل أرضاً، وتوضع فوقهنّ صفائح الحديد حتى تمشي الدبابة الصهيونية عليهم فـ«تطق» بطونهنّ ويخرج الطفل الجنين. لهذا خرجنا من إجزم وذهبنا إلى عرعرة وتلقّانا الجيش العراقي هناك. كنا حوالى ستة آلاف شخص، بينهم 150 مقاتلاً فقط، ثبتوا أمام العصابات اليهودية وظلوا صامدين. ولم يجرؤ الصهاينة على دخول القرية إلا بعد أشهر من خروجنا منها، فقد تملّكهم الخوف من دخولها..
بعد خروجنا إلى عرعرة وجد الناس مشقة عظيمة، حتى إن البعض كانوا يحملون أهاليهم الكبار في السن، ومن التعب لم يستطيعوا أن يكملوا، فكانوا يبقونهم على الطريق.
وأذكر أننا خرجنا مشياً على الأقدام من الساعة الرابعة عصراً ووصلنا في صباح اليوم التالي. وكانت حالة الناس يرثى لها، بعد ذلك أحضر البعض طعاماً وأكلنا معهم، وجاء الجيش العراقي ونقلنا من عرعرة إلى جنين، فمنا مَن سكن في كهف، ومنا مَن سكن في مدرسة، وأوصوا الخبازين في جنين بأن يعطونا خبزاً.
في العراق
في جنين جاء عندنا عبد الكريم قاسم ووقف وشكرنا، وقال لنا: «أنتم حاربتم مثل العراقيين وثبتّم وأنتم سباع ولازم نستضيفكم في العراق»، والحقيقة، أنّ الوحيد الذي صمد معنا هو الجيش العراقي. مكثنا في جنين نحو 15 إلى20 يوماً، ومن ثم أخذونا إلى العراق وسكنّا في منطقة اسمها شعيبة، وهي عبارة عن معسكر تحت الأرض كان للبريطانيين، وبقينا حوالى شهر، وصار في العراق بعدها عدة انقلابات. وبعد سنتين ونصف أكملت الدراسة الثانوية وأخذت بكالوريوس اقتصاد، ومن ثم دخلت الجيش في زمن عبد الكريم قاسم سنة 1960، وتشكّل جيش التحريرالفلسطيني. تخرجت من الجيش وشاركت في حرب 1967، وبعدها في معركة الكرامة.
بعد 1970 كتبوا ضدي تقارير لياسر عرفات وطلّعني من الجيش، فعلى ما يبدو كانت تلك المرحلة تحتاج إلى بعض الكذب والدجل والشعوذة، وكنت وقتها برتبة نقيب، فرجعت إلى بغداد واشتغلت محاسباً في وزارة الصناعة حتى سنة 1976.
وفي سنة 1976 ذهبت إلى لبنان، وعملت مع الثورة خبيراً عسكرياً. ومن ثم عدت مرة أخرى إلى بغداد، ولا أزال فيها أنتظر العودة إلى فلسطين، وبعون الله سوف ننتصر ونعود إلى فلسطين والعرب والمسلمون إذا تضامنوا معاً وكانوا صادقين مع الله ومع أنفسهم، فسوف يكون النصر حليفهم
أحمد حسين/ دمشق- مجلة العودة