جيل يموت وآخر يحمل الراية، يتعاقبون على حفظ حقوقهم وفهمها في تحد لكل محاولات الطمس والتزوير . .
أدركت عائلة المدلل والجد أبو العبد مبكراً أهمية توريث حفيدها الأول “أسامة” حب الوطن وحلم العودة منذ نعومة أظفاره، لأن لدى أبو العبد واللاجئين كافة خشية من ضياع أمانة القضية، وقناعات بأن الراية يجب أن يحملها الأحفاد بعد الأبناء والأجداد، ويقول أبو العبد: “لا يضيع حق وراءه مطالب” .
حظي أسامة (12 عاماً) باهتمام على نحو خاص، فكان نصيبه أن ولد في عائلة اعتنت بتعليمه كل شيء عن وطنه وقريته . . عائلة أخذت على عاتقها توريثه راية الحفاظ على الحق وحمل لواء العودة الى أرضها التي سلبت منها .
بكل فخر يتحدث أسامة عن قريته الأصلية “البطاني الغربي”، ويقول: هاجر أجدادي وأهلي وكل أفراد عائلتي من قرية “البطاني الغربي”، ومن أحاديث جدي وأبي عنها وذكريات أهلي فيها تشبعت بحبها، وأصبح اسمها نغما أتغنى بألحانه للغد المقبل الذي سنعود فيه إلى هذه الجنة التي تتوق نفسي شوقا إليها حتى ولو لم أرها من قبل .
لقد اعتمد جدي معي أسلوب التشويق وعرف أن ما تسمعه الأذن تطرب له النفس ويذوب فيه القلب، فكان يشرح لي تفاصيل أكبر من سني، يناديني وأنا ألعب مع الأطفال لأنه تذكر شيئا لم يحدثني به من قبل حول الحياة في “البطاني الغربي”، وكان دوماً يكرر على مسامعي: عندما تعود إلى قريتنا سيكفيك أن تعيش في ملك هو لك وارض لا تعرف إلا أنت، ولا سلطان لإنسان عليك فالحكم فيها لله والانتماء للوطن والتراب .
ويضيف اسامة بحماس شديد وهو يشير بيده الصغيرة إلى موقع قريته على الخريطة التي تتوسط منزله: “هنا تقع قريتي، التي احمل لها أمانة من جدي ليست بالهينة وأدرك أنها ثقيلة لأني حريص ألا أضيعها، ولدي اصرار على أن تبقى عظيمة شامخة في نفسي، بالعودة إلى هذا المكان”، ويبرز هنا في ذهن أسامة الصغير سؤال كبير: كيف تضيع القضية؟ وهي آية في كتاب الله ووعد منه لا بد أن يوفى . كيف يظن المحتل وإن مضت عشرات السنوات أن حرارة الانتماء إلى فلسطين يمكن أن تخفت أو أن جذوة اللقاء يمكنها التلاشي؟، كيف ذلك وهي دائمة التوهج في القلوب بالعهد الذي أودعه الرجال إلى الرجال؟ .
كانا يتمنى محمد عاشور أن تتوفر له ظروف أسرية تشابه ظروف أسامة، من اهتمام أسرته بتاريخ بلدتهم الأصلية ودوام الحديث عنها، فهو بالكاد يعرف اسمها وبعض التفاصيل العامة التي قد يعرفها من هم أصغر منه سنا، فيفتتح محمد (11 عاماً) حديثه وشيء من الخجل يعتريه: أنا من مواليد مخيم رفح، إلا أن بلدتي الأصلية هي “يبنا” داخل فلسطين المحتلة، وكلما أردت أن اسأل عن معلومات جديدة لا أجد تجاوب من والدي الذي أشغلته هموم الحياة ومتاعب لقمة العيش . لا أعرف من اسأل وقد توفي جدي وجدتي وأنا صغير، وإن سالت أمي فهي الأخرى لم تعاصر النكبة ولم تسمع عنها الكثير ولا تعرف سوى بعض المعلومات التي تعتبر عامة حول البلدة التي تنحدر منها أصولنا وفيها عاش أجدادنا وأهلنا، غير أني اعرف أن المحتل هجرنا من أرضنا وأخذها غصبا وأن مخيم رفح ليس موطننا الأصلي، استمع إلى هذا من زملائي الذين يمتلكون بعض المعلومات عن بلداتهم الأصلية ولا شك أن قريتي تشترك معهم في هذه الظروف . وبلهجة جادة يتابع الحديث: أحمد الله أنني اعرف اسم بلدتي فهذا يعطيني فرصة للتعرف إليها عندما اكبر من خلال القراءة والمطالعة، وبطرق مختلفة أخرى، الأهم أني دائما مهتم بمعرفة المزيد عن فلسطين .
ويتابع محمد قائلا: لن أقف مكتوف الأيدي وسأبحث عن معلومات عن هذه البلدة العريقة وأتعرف إلى ماضي أجدادي وأهلي حتى وإن انشغل أهلي في حياتهم سأظل على العهد حتى أعود إليها . أنا ألعب مع أولاد من حارتي وكل منهم من بلد مختلفة إلا أن الجميع يحب فلسطين، ونحن نشتاق للعودة ونشارك في احتفالات المدرسة بذكرى النكبة .
سامر أبو الخير طفل في عامه الثالث عشر، يدرس في إحدى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” في مخيم دير البلح للاجئين . سامر طالب مجتهد في دراسته، مثابر وفضولي بطبعه، يسأل في كل الأمور ويحب التعرف إلى الجديد، لاحظ فيه والداه اهتمامه السياسي من خلال متابعاته لنشرات الأخبار ومتابعة الأحداث من حوله، كونه فلسطيني يعيش في ارض محتلة وقد عايش الحرب الأخيرة بكل تفاصيلها حاله كحال بقية أطفال فلسطين الذين كبروا قبل أوانهم وتفتحت مفاهيمهم على أمور تفوق أعمارهم الصغيرة .
حب سامر لقريته لا يختلف عن حب بقية أطفال فلسطين لمدنهم وقراهم، لأنه يدرك بعقله الصغير أن هناك أرضا سلبها المحتل يملك فيها هو وأهله كل حبة تراب على الأرض وكل قطرة ماء في بحيرة أو واد .
سيظل هذا حالهم وديدنهم، سيورثون قضيتهم وحلمهم لأجيال لاحقة . سيموت الآباء لينتقل حلمهم إلى الأبناء، لأنه بتمسكهم بهذا الحق ستبقى رؤوسهم عالية، وسيكتب التاريخ عنهم بصفحات ناصعة، أن قوما ذبحوا وشردوا من وطنهم عاشوا وماتوا على أمل عودتهم ذات يوم، بل سيكتب أن عدوا مغتصبا اندحر كما اندحر غيره من الجبابرة، وسيطوي صفحة احتلالهم ويستبدل بها صفحة عودة مظفرة لأصحاب الأرض.
صحيفة الخليج 15/05/2010