يروى ميلاد أشقر- أبو زياد (1931): "أهل البلد اشتغلوا أكثر اشي بالزراعة وع البيادر. الختيارية كانت تعمل عريشة ع البيادر وتقعد تحت فيّتها، كل عائلة بإقرث كان إلها عريشتها. البيادر كانت كلها جنب بعضها البعض القمح كنا نجيبه من البيدر، ندرسه شهر أو شهرين على فرس أو بقرات، بعدها نطحنه ناعم وبعد ما يخلص البيدر كله كنا نعمل عورمة كبيرة (قمح وتبن مخلوطين، قبل الفصل، وموجودين على شكل هرم) ونعلن للناس، إنه بكرة مثلا أبو إلياس بدّه يذرّي البيدر (يعني يفصل القمح عن التبن)، وتيجي الناس تساعد، ييجو عشرة أو عشرين رجل حاملين مذراية (المذراية عبارة عن كف له خمس أصابع مع عصا طويلة)، يدقوا بالعورمة، وييجي الهوا بياخد التبن وبخلي القمح. التبن بيجي مرحلتين، مرحلة ناعمة كبيرة عشان السطوح والحيطان، ومرحلة يكون مخزون علف للبقر.
بالبيدر، لما يصير قمح كان ييجي المخدر (حارس على الأرض)، العجال (الراعي الذي كان يسرح ببقر القرية في الجبال والمراعي)، الحلاق، الناطور (شخص في البلد الذي يقف على منطقة عالية وينادي على أهل البلد ويعطيهم الأخبار) واللي بحذي البقر والخيل، كلهم بيجوا يوخدوا أجارهم. ما كان في مصاري وفيزا مثل اليوم.
بعدها يحطوا القمح بالغربال، كان غربال مصنوع للحب الصغير وغربال للحب الكبير. يعني بيجي مع عيون صغيرة أو كبيرة، وهاي شغلة نسوان. الرذايذ هي الحبة الميتة اللي بتنزل من الغربال، الرذايذ هاي لا للبيع ولا للشراء، عادة بعطوها علف للمواشي، والقمح هو اللي بيبقى بالغربال نظيف نظيف مثل الذهب. رذايذنا ولا القمح الصليبين، هذا مثل شعبي كانوا يقولوه للبنات الغريبة اللي بتجوزوهم وبجيبوهم على البلد، والمقصود إنه بنات البلد ولو كانوا رذايذ بظلّهم أحسن من البنات الغريبة اللي بجيبوهم على البلد (ضاحكاً)."
زمن السفربرلك (زمن الاتراك وتجنيد الشباب العرب للجيش)
أبو زياد: " بسنة السفربرلك، سنة 1914، يومها كان في تجنيد إجباري لرجال القرى للجيش التركي. أبوي تجند في تركيا لما كان ابن 17 سنة، أخذوه على الشام، وبعد فترة هرب من الشام هو وواحد من قرية علما اسمه أندراوس، وكانوا يمشوا بالليل وبالنهار يناموا. الطريق من دمشق لإقرث أخذت معهم كثير وقت. لما قطعوا منطقة الشريعة، وين جسر بنات يعقوب، (الشريعة هي حدود طبيعية بين سوريا وفلسطين)، ووصلوا قريب على البلد، شافوه بنات المختار، يومها كان معروف إنه وين في ضيّ سراج بالعتمة ممكن هناك يكون في شاب هارب من الخدمة، البنات راحوا وبلّغوا أبوهم إنه في شاب هارب، والمختار بلغ الجيش عن أبوي وأجوا أخذوه كمان مرّة لقرية سمخ ومن سمخ رجّعوه بالقطار لسوريا. بسوريا أبوي تعلم تمريض واشتغل ممرض عسكري، وبعدين اشتغل ساعي بريد بين دمشق وجبل الدروز. اشتغل أربع سنين هناك لحد ما تركيا صارت تطلع من الجنوب وتـنهار وعندها رجع أبوي على إقرث .
بفترة السفربرلك أجا كثير جراد على المنطقة وصار يوكل الأخضر واليابس. تركيا صارت تعطي جوائز لكل شخص بجمع كل يوم علبة من بيض الجراد. بلدنا وكل البلاد كثير تضررت من الجراد، وأمي حكت لي إنهم وصلوا لوضع إنهم يوكلوا من براز البقر. بهاي الفترة الرجال كانوا بالحرب وكانت النسوان هي اللي تحرث الأرض وتحصد.
اقتلوا نسوان البلد قبل رجالها
أبو زياد: " لما تركيا إنهارت قسّموا المنطقة والإنجليز انتدبونا، أنا بذكر العسكر الإنجليزي لما أجا عنا على الأرض وطعميناهم تين يابس. فرنسا وبريطانيا حتى يشرعوا وجودهم بالمنطقة ويثبتوا إنه هذا الشعب صعب يعيش مع بعضه، أوجدوا خلاف بين المتاولة (القرى الشيعية المجاورة) وبين المسيحيين. أعطوا سلاح لجماعة شيعية وأعطوا سلاح لمسيحية بلدنا ولعين ابل. المتاولة هجموا على عين إبل وحرقوها. مختار بلدنا خاف إنه يحرقوا إقرث.
بسنة العشرين هجموا علينا الشيعيين، أهل بلدنا أخذت نقاط استراتيجية، وين المنقطة الشمالية عند البركة، المنطقة هاي كانت كروم وأرض مكشوفة. قُتل من بلدنا بهاي الهجمة أربع شهداء، رجلين ونساء تنتين. كان عنا خوري قبضاي، شجّع البلد على الصمود.
مرّة دخل أرض بلدنا واحد من المتاولة راكب حصان. شافوه بعض نسوان البلد، منهم واحدة اسمها نصرة الأيوب وخالتي. النسوان هجمت عليه بالقشقوشة (فروع شجر ضعيفة) وضربوه. لما روّح الشاب على بلده قال: اقتلوا النسوان بهاي البلد قبل الرجال، لإنه نساءهم أرجل من رجالهم.
عودة المسلحين ورفع الراية البيضاء على حمارة القرية
وعن إرجاعه للمقاومين أضاف أبو زياد: " يومها أنا كنت أكبر شاب بالبلد . وأهل البلد طلبوا مني أروح على بيت محمد القاسم وألتقي بالمسلـّحين وأطمئنهم وآخذ منهم سلاح، حسب الاتفاقية مع الجيش. مشيت ووصلت عند طريق المقبرة، تطلعت على الجبل وشفت جنود وخفت يقتلوني، حملت علم صغير، نزلت على أرض اسمها كُسبر (أرض في إقرث)، على قطمون (أرض مثلث، حواليها جبال، وصالحة للزراعة) وكمّلت على بيت محمود القاسم. هذا محمود كان بدوي وساكن بأرض لحاله مش بعيدة عن أراضي إقرث. مشيت حوالي ساعة، ولما شافوني المسلحين أجوا يركضوا عشان أحكيهم شو صار، بذكر منهم إلياس سلوم، حنا توما، لطف ويوسف جريس. حكيت لهم شو صار، وإنه اليهود اجتمعوا مع المختار وسلموا البلد وبعتوني عشان أطلب منكم تسلموا السلاح وإنه ما راح يصير عليكم إشي وانتو بأمان. قسم وافق وقسم لأ. كان معنا يومها ذيب الشيبان، وذيب قال إنه ما بده يسلم البلد وسحب حاله وراح. مشينا رافعين العلم الأبيض على عصا، ونزلنا من الجبل على القطمون، قطعنا الوادي لحد ما وصلنا على مشارف إقرث.
واحد من الشباب قال كيف بدنا نسلم بواريدنا ونذلّ حالنا، خلينا نحطّ السلاح كله على الحمارة، ميلاد ولبيب بجرّوها وإحنا بنمشي معهم. المجموعة وافقت وحمّلوا حوالي تسع بواريد على الحمارة ورفعوا العلم الأبيض عليها لحتى وصلوا العين الغربية بإقرث. هناك لاقيت عمتي مريم وأم ماضي، قلت لها: شو يا عمتي؟، قالت لي: البلد مليانة جيش والجنود ع البيادر، إنتو توزّعوا، وما تطلعوا طريق واحدة".
وتضيف كاميليا خيّاط - أم راضي (1924)، وهي تسكن اليوم في كفرياسيف:
" بعد ما رجعوا الشباب، أجا الجيش وصفّ حوالي 10 شباب من البلد بدّه يطخهم (باكية). الخوري أندراوس قرداحي هجم عليهم وقال لهم: طخّوني أنا وما تطخوا الشباب. احنا ما عملنا لكم إشي ولا طلقة طلعت من بلدنا. قالوا له: راح نتركهم إذا فتحوا الطريق لكيبوتس أيلون وأزالوا الألغام. وبالفعل هيك صار وهيك نجيوا الشباب".
وعن رحيله الى الرامة حدثنا أبو زياد: " بعد فترة قالوا لنا اليهود ممنوع تبقوا بإقرث، يا بترحلوا على الرامة أو بتروحوا على لبنان. أنا طلعت مع البقرات من بلدنا لفسوطة، ومنها لجسر الحبيس غربيّ حرفيش، بعدها لسحماتا وللبقيعة. بالبقيعة شرّبت البقر، ارتحنا وكملنا طريقنا على الرامة. بالرامة كان في كثير مسيحية رحلوا من البلد وبيوتهم فاضية، وكان في أولاد حلال دروز دلونا على البيوت الفاضية. إحنا سكنّا ببيت فيه حوش كبير حتى يعيش فيه البقر كمان. هذا البيت كان لفوزي إبراهيم الناصر، هجر على سوريا، بذكر كان بالبيت صورة لرجل مع شوارب، وكان في سدّة كمان. بعدها جابولنا عائلة من فراضية (قرية جليلية مهجرّة) سكنوا معنا. قسم سكن بالتبّان (مخزن للتبن) وقسم على السدّة (نصف طبقة داخل البيت، يصعدون اليها بالسلم، وينام بها عادة الضيوف).
الجيش الإسرائيلي طلب من الدروز إنهم يحطوا دائرة خضراء على أبواب بيوتهم، حتى إذا دخل يقدر يعرف بيت الدرزي من بيت المهجّر، ويرحلوا المهجّرين. بذكر واحد درزي اسمه علي قفورة (أبو محمد) أخذ علبة دهان وحطّ على كل بيوت المسيحية دوائر خضرا وهيك إحنا ظلينا بالبلاد. بقينا بالرامة لسنة 1988 ومن بعدها انتقلت أنا وعائلتي للعيش في حيفا".
المصدر: موقع ذاكرات