حكى مسعود الجليلي،
كان ذلك قبل أيام،
حضرني صديق عمر وأمل اسمه يوسف الموسى من عكا،
يعمل سائق أجرة،
قصَّ عليَّ ما بت أذكره جيدا ولا يعقل أن أنساه،
قال:
جاءني قريب زوجتي،وكان هاجر من مخيم "عين الحلوة" في جنوب لبنان إلى كندا،وصل البلاد سائحا،وكان أول ما نوى زيارته،قريته التي أبعد عنها وباتت بيوتها كومة حجارة،قرية طيطبا القريبة من الجش والواقعةعلى مقربة من مدينة صفد في الجليل الأعلى،
عروس جبل كنعان منذ كان القدم.
حين هبت رياح النكبة كان عمره خمسة أعوام،وبعد ستين عاما من الهجيج والترحال لم يخفت فيه الحنين إلى ما كانته طيطبا!
أدمن الهجيج والترحال قسرا،
سَدّوا عليه كل المنافذ،
أبقوا له باب البحر للتلاشي والضياع فيه،
لكنه أبحر وما ضاع،
عرف كيف يعود
ليجدد تشبثه بطيطبا،
كيما تسهل عودته إليها ذات غد.
كان اسمه أحمد شناعة،
أما زوجه،
فولدت في المخيم في لبنان وكان اسمها صَبحة شناعة،
تصغره قليلا،
لكنها لا تعرف طيطبا إلاّ من خلال ما روته أمها وقصه أبوها وسمعته من آخرين.
كانت طيطبا أشبه بحلم،
يبدو عصيا على التحقيق،
لكن عصيا على النسيان.
سأل أحمد شناعة عن موقع قريته وما إذا كنت أعرفه.
قلت،
حدَّث السائق:
لي معارف وأصدقاء في عكبرة وهم سيرشدوننا،
لنجد طريقنا إلى هناك.
وهو ما حدث،
وصلنا بعد سؤال ورده إلى العم أبو محمد حليحل،
بادر مُحَدِّثنا من طيطبا بسؤال من يكون الوافد:
ابن مصطفى أم ابن ابراهيم شناعة؟
ردَّ الزائر الآتي من كندا:
أنا ابن مصطفى وابراهيم هوعمي!
فلم يكن من المتحدثيْن إلاّ أن نهضا من مقعديْهِما وبدأا عناقا راحَ يَطول.
روى السائق:
تخلل العناق تنهُّدٌ باكٍ.
بعدها خرجنا،
وكان معنا أبو محمد وابن أخيه محمود حليحل،
صديقي من سنين.
وصلنا بعد فترة،
وكان واضحا أن بيوت القرية وما كان فيها من معصرة زيت،بركة تجميع المطر في الشتاء ومطحنة القمح وغيرها من معالم البلدة دمر كليا.فلم يبق إلاّ ركام الحجارة المقتلعة،بعض شجر الصبر،شجرة زيتون،شجرة كينا،بعض معالم ما كان مقبرة وبضعة سناسل.
كان من الصعب التعرف على معالم حقيقية،فجامع القرية هُدِمَ وكذلك مبنى المدرسة
وحين لم يجدوا ما يؤكد موقع البيت،رفعت صَبحة سَمَّاعة الهاتف المحمول وهاتفت أمها في المخيم،
ندَهَتْ:
يا أمي!
لو تدرين!
أحمد وأأنا أفلحنا في الوصول إلى قريتنا طيطبا،
لكن هل ما زلتِ تذكرين ما يدلنا على موقع البيت،
فالقرية باتت كومة حجارة!
سالت صبحة أمها!
ردت الأم من الطرف الثاني وكان صوتها مسموعا،
يغلب عليه صوت بكاء مكتوم:
بيتنا كان في أعلى تلة القرية،
أخاله لا زال هناك!
من شرقه شجرة كينا عالية،
في الغرب بركة ماء محفورة في الصخر وشجرة زيتون،
وفي الشمال،
بعيدا قليلا ًكانت مطحنة القمح
وإلى الجنوب منه كانت المعصرة!
راحت الإبنة،
صبحة،
تغالب سُمْنتها،
تركض مثل قطة محزونة،
لكن فرحة،
بين الشوك والحجارة المتناثرة في المكان،
وكانت حريصة على مواصلة سماع الهاتف،
تتفقد المواقع لتحدد موقع البيت وما كان حوله،
قال السائق:
أدهشتني تلك المرأة كيف راحت تقفز بين المواقع الشائكة وبين الحجارة،
غير آبهة بسمنة بادية عليها ولا بشيخوخة بدأت تتسرب إلى جسدها،
فكان كل همها تحديد مكان البيت،
لتسهل العودة إليه
حين تلوح بشائر عودة.
وكأنها كانت مندفعة بشعور قوي لتأكيد ما لم يستطع شطبه غائل الزمن:
هنا كان بيت أهلي ولا يزال!
حدَّثَ السائق:
قضينا معظم ساعات العصر في ظل شجرة الكينا،يروي العم أبو محمد حليحل بعضا من ذكرياته ومن يذكره من ناس طيطبا وشقيقاتها وكيف انتكبت.
لكن سرعان ما انحرف النقاش الكان ودودا،
لكن محتدّا
بين العم أبو محمد حليحل،
ابن اخيه محمود،
الضيف الوافد من كندا،
زوجه وأنا،
انحرف النقاش ليدور حول سؤال:
كيف يمكن الجمع بين حق البقاء وحق العودة وأين يجمل بنا أن نبدا بالمطالبة والعمل،
أكد السائق:
أشغلنا السؤال كثيرا ً!
هل ثمة عودة دون بقاء؟
وهل ثمة بقاء دون عودة؟
بعدها صمت السائق،
قال:
في طريق العودة،
التزمنا الصمت الأخرس،
شديد النطق وأفصحه،
إذ أدرك كل واحد منا لزوم أن يسكت،
نسكت،
ليتحدث واحدنا مع نفسه،
علَّنا نعرف حقا ما هو الجواب،
فيكون ذلك أول المطالبة
وأول العمل.
*نص من العمل الأدبي الجديد:
"زهرة الجرندس أو بعض ما احتفظت به ذاكرة ُوعرة ".