ولد الحاج رجب إبراهيم قنيرة عام 1914م في كفر لام قضاء حيفا، وفيها قضى طفولته وشبابه.. إلى أن اندلعت الحرب الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني عام 1948، ونتيجة للمجازر البشعة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين في العديد من القرى والمدن الفلسطينية، اضطر وأهله إلى مغادرة فلسطين واللجوء إلى سورية، حيث استقروا في مخيم عين التل (حندرات) للاجئين الفلسطينيين في حلب شمال سورية.
يصف الحاج رجب "كفر لام" قائلا:« كفر لام قرية قديمة، وكانت عبارة عن مملكة في الزمن القديم، لها سور وبوابة، تتربع على ارتفاع شاهق عن مستوى سطح البحر، تطل على البحر وتبعد عنه مسافة 3 كم، بينما تبعد عن حيفا 27كم وعن يافا 90كم، تحدها من الشمال قرية صرفند، من الشرق جبع وعين غزال وإجزم، ومن الجنوب الطنطورة، وسكة القطار السريع تمر بغربي القرية، ويبلغ عدد سكان كفر لام 400 نسمة.
* المهاجرين اليهود إلى فلسطين:
كان اليهود الذين في بلادنا لا يتجاوزا العشرين ألف موزعين في حيفا وقضاء عكا والقدس، لكن الإنجليز أصدروا قانوناً يسمح بدخول 250 يهودياً مهاجراً على فلسطين كل شهر، ولكن في الحقيقة كان يدخل أضعاف أضعاف هذا العدد شهرياً إلى فلسطين فترة انتداب بريطانيا على فلسطين، فيعتقلهم الإنجليز مدة شهرين ثم يفرجوا عنهم.
* مجازر العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين:
احتل اليهود قرية الطنطورة التي تبعد عن قريتنا 2 كم، وقتلوا 165 فلسطينياً من أبناء القرية، ثم جمعوا عدد كبير من أهالي القرية وصفوهم على شاطي البحر كي يرشقوهم بالرصاص، لكن مختار مستعمرة زمارين اليهودية تدخل ومنعهم من رشقهم، كما كان اليهود يجمعون 20 شابا ورجلاً ويرغموهم على حفر خندق طويل بأيديهم ثم يصفوهم بموازاة الخندق ويرشقوهم بالرصاص ويقتلوهم، فيسقطوا في الخندق الذي حفروه..أي يجعلوهم يحفرون قبورهم بأيديهم. ولو كان اليهود احتلوا قريتنا ونحن فيها لعملوا بنا أكثر مما ارتكبوه في دير ياسين..لأنهم خسروا كثيراً من القتلى خلال هجماتهم المتقطعة علينا قبل مغادرتنا القرية..
* خيانة الأسلحة:
كنا نطلب نجدات من الجيش العراقي فيعدونا وبعد أيام يقولون لنا « ماكو أوامر» أي ليس لديهم أوامر لإعطائنا أسلحة، وذات مرة أخبرنا يهودي أنه يستطيع شراء الأسلحة لنا من مصر، وبالفعل أحضر لنا كمية من البنادق من سيناء مصر، ولكن كل بندقية منها قتلت صاحبها، لأنها كانت محشوة بالديناميت بدلا من البارود.. كما كانوا ينادون علينا بأسماء عربية معينة..تعال يا فلان..وأنت يا فلان.. فيأتي الشخص منا يظن أن عربيا يناديه أو يعرفه فإذا به يهودياً مسلحاً فيطلق عليه النار ويقتله..
أما خيانة السلاح العراقي، فذات مرة أعطانا الجيش العراقي مدفع مضاد للطائرات، فأحضرناه وجربناه فأطلق قذيفة تغزل غزلاً، فقلنا علينا الاحتفاظ بالقذائف إلى حين وصول الطائرات اليهودية، ولما هاجمتنا الطائرات حاول شبابنا إطلاق قذيفة من المدفع لكن المدفع انفجر بهم وقتل اثنين وجرح اثنين آخرين من الذين حوله..
لقد كنا شعب أعزل لا نملك السلاح، بعكس اليهود الذي كانوا مدربين على الأسلحة ومجهزين بأحدث الأسلحة والآليات العسكرية، فبريطانيا قدمت معسكراتها التي في فلسطين لكامل عدتها وعتادها إلى اليهود بينما نحن لم تعطنا الجيوش العربية قطعة سلاح واحدة..
* الهجوم على البلدة:
مع اشتداد الأوضاع والهجمات الصهيونية على القرى والبلدات الفلسطينية عام 1948م وانتشار فظاعة ما ارتكبه الصهاينة من مجازر بحق الفلسطينيين لا سيما في دير ياسين وكفر قاسم، اتجه وفد من أبناء كفر لام إلى إخوانهم في القرى المجاورة (جبع، إجزم وعين غزال) لاستشارتهم في وضع البلدة وما يجب أن يفعلوه، أخبرهم إخوانهم هناك أن منطقتهم ساحلية مكشوفة، لذا لا يستطيع أبناء تلك القرى أن يفزعوا لأبناء كفر لام إذا ما تعرضت لهجوم من قبل عصابات اليهود، فاقترحوا عليهم أن ينتقلوا مؤقتاً إلى إحدى تلك القرى ريثما تهدأ الأوضاع، ونتيجة ذلك انتقل أهالي كفر لام إلى تلك القرى، لكنهم لم يستطيعوا المكوث طويلاً إذ سرعان ما اتجه 12 رجلاً من أبناء كفر لام إلى قريتهم ومن بينهم الحاج رجب:
كانت القرية خالية تماما من أي كائن حي، وعلمنا من أهالي صرفند أن اليهود أتوا إلى قريتنا وسرقوا الدجاج الذي تركناه في القرية ثم رحلوا عنها، بعدها صرنا ننقل محاصيلنا إلى خارج القرية، حيث مكثنا في قرية قريبة من قريتنا مدة من الزمن إلى أن وصلت باخرة كبيرة قرابة الساحل، ووضع اليهود على سطحها مدافع كثيرة وبدؤوا يقصفوا القرية، ولم نكن نملك ما نرد به على تلك القذائف، فأسلحتها بسيطة جدا وقديمة عبارة عن بواريد (بنادق) فقط..لذا هربنا إلى الجبال باتجاه الكرمل، إلى أن وصلنا بلد تدعى عرعرا وكفر قرعا، فوجدنا الناس يجلسون تحت الأشجار بالمئات، إذ كانت جموع كبيرة قد سبقتنا إلى هناك من قرى مختلفة.. لقد تعبنا كثيراً، حتى أطفالنا مشوا 12 ساعة متواصلة بين الجبال والوديان إلى أن وصلنا تلك المنطقة..
* دفعات اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق:
ومع طلوع الشمس وصلنا ولي عهد العراق عبد الإله قادماً من العراق، فقال أنه سيحمل هذه الجموع إلى العراق على نفقة الحكومة العراقية، وكان الجيش العراقي وقتها متمركز في هذه المنطقة، وبالفعل انطلقت قافلتين تقلان مئات الفلسطينيين إلى العراق، ولما كدنا نذهب في القافلة الثالثة، صدر قرار عن القيادة العراقية يمنع فيه كل فلسطيني قادر على حمل السلام من الذهاب إلى العراق أو حتى مغادرة فلسطين بشكل عام، أي من بلغ عمره الأربعين عاماً فما دون يُمنع من المغادرة، ونظراً لعدم قبول والدي المسن الافتراق عنا واصطحاب نسائنا وأطفالنا معه إلى العراق، بقينا جميعنا معاً في فلسطين ولم نغادر وقتها..
بعد عدة أيام نادى مناد في نابلس "من يريد الذهاب إلى الشام..فليركب السيارة ويدفع 5 جنيهات أجرة عن كل راكب" وكان المنادي لديه سيارة شحن كبيرة، فصارت الناس تسجل أسماءها وتصعد إلى صندوق السيارة، فلما وصلنا وأردنا تسجيل أسماءنا لم نجد لنا مكاناً حيث اكتظت السيارة تماماً بالركاب..
طبعا هذا الرجل _ صاحب السيارة_ استغل وضع الناس آنذاك ورفع سعر الأجرة إلى رقم خيالي، فالجنيه آنذاك كان مبلغاً كبيرا فما بالكم بالخمس جنيهات فلسطينية..!!
بعدها رحلنا من نابلس إلى جنين وطوال مسيرنا كانت القرى والبلدات كلها تحت سيطرة اليهود، ووجدنا فور وصولنا جنين سيارة تنادي إلى الشام، بأجرة 2 جنيه عن كل راكب، فصعدنا، ولما وصلنا الحدود السورية أوقفونا فترة من الزمن، اتصلوا خلالها بالرئيس القوتلي فسمح لنا بالدخول إلى سورية، فأركبونا القطار ووزعونا على المدن والقرى السورية بحسب استيعاب كل منطقة، وقتها كنت قد سألت عن أفضل منطقة ننزل بها فقالوا لنا "حمص"، فلما وصلناها وأردت النزول مع عائلتي، لم يسمحوا لنا لعدم وجود استيعاب فيها، واستمرت الرحلة إلى أن وصلنا حلب حيث نزلنا فيها ومكثنا في ثكنة عسكرية قديمة مهجورة ثم وزعونا على القرى المجاورة.. وبعد قرابة 3 سنوات، قدمت الحكومة السورية لنا أراض في جبل حندرات، وكان وقتها وعر ومليء بالصخور الكبيرة جدا..فعزلناه بأنفسنا وفتتنا صخوره وسوينا أرضه وبنينا فيه بيوتنا وشجرناه..ومنذ عام 1962م ونحن نقيم في مخيم حندرات في حلب.
المصدر: منتديات القضية الفلسطينية