في مساء 6 أيار (مايو) من عام 1948، وبينما كنا جالسين على أطراف قريتنا، شاهدنا غمامة سوداء تمشي على الأرض. هذه الغمامة لم تكن إلا لنساء كثيرات كنّ يتشحن بالسواد جئن إلى الجش يصرخن ويبكين ويستنجدن.
هكذا فتح لنا الأستاذ خليل خلايلي دفاتر أيامه، ليحكي عن أوراق الوطن وذكريات النكبة.
مجزرة عين الزيتون
دهمت العصابات اليهودية من قوات البالماخ، على حين غرّة قرية عين الزيتون، بقوة مدججة بالسلاح المتوسط والثقيل، ترافقهم الدبابات، وكان قوام قوتهم 900 مجند مدربين أفضل تدريب. وعند وصولهم إلى ساحة القرية جمعوا العشرات من شبان القرية، ثم أطلقوا عليهم النار جميعاً فخروا صرعى. احتمى بعض الأهالي من النساء والأطفال والشيوخ، بمسجد القرية. قام الصهاينة بتلغيمه ونسفه فتهدم على من فيه، وأخذوا يطلقون النار عشوائياً فهرع الناس مذعورين إلى القرى المجاورة.
سقطت قرية عين الزيتون بعدما ارتكب الصهاينة فيها مجزرة فظيعة، راح ضحيتها العشرات من أبناء القرية. وبسقوط هذه القرية تمهَّد الطريق أمام الصهاينة لاحتلال مدينة صفد. وبالفعل، بعد خمسة أيام فقط في 11 أيار (مايو) سقطت تلك المدينة الجميلة الوادعة.
بعد المجزرة
أهالي قريتنا الجش أدركوا معنى سقوط صفد وبعض القرى المجاورة، فأخذوا يعدون العدة لأنهم أدركوا أن الدائرة قريباً ستدور عليهم. جمعوا المال من الأهالي وذهبوا يجوبون القرى لشراء السلاح ومنهم من ذهب إلى سورية من أجل ذلك.وتمكنوا من شراء بعض القطع، منها اثنتان من نوع (توميغان) وأربعة أخرى لم أعد أذكر ما نوعها. لكن لم يكن هذا ليكفي حتى نواجه تلك القوات الصهيونية المدججة والمدربة التي تسير ضمن خطط عسكرية دقيقة ومحكمة.
دخل جيش الإنقاذ قريتنا، الجش، والقرى المجاورة (ميرون والصفصاف ورأس الأحمر)، وحاول هذا الجيش بقواته المتواضعة تحرير صفد لكنه فشل. وأقام في قريتنا الاستحكامات القوية المبنية من الإسمنت والحجارة، واختيرت منطقة المرج من أراضي القرية لتلك الاستحكامات، وانتشرت قوات جيش الإنقاذ في الجش والقرى الأخرى. كان قوام تلك القوات قرابة ـ700 جندي مدعومين بنحو 800 مدفع من القرى الأربع (الجش، ميرون، الرأس الأحمر والصفصاف). وبقيت الحال على ما عي عليه حتى مساء 29 تشرين الأول هذا اليوم الذي كان مفصلياً بالنسبة إلينا وللقرى الثلاثة الأخرى.
فبينما كنت أنا وأصدقاء لي نلعب بالقرب من المدرسة في مساء ذاك اليوم، جاءت من جهة الجنوب الشرقي للقرية طائرتان ومرّتا فوق القرية وفوق جبل الجرمق، فتصدى لهما جيش الإنقاذ وأطلق نحوهما بعض القذائف، لكن لم تكن لتصيب الطائرتين بل كانت تنفجر بالجو، ولم تكن أيضاً لتخيف الطيارين الصهاينة، حيث تابعوا التحليق في سماء القرية والمنطقة كلها. وعلى ما يبدو، كان هدف الطائرات الاستكشاف، لأنه بعد ساعات من طلعاتها، بدأ اليهود يقصفون القرية قصفاً شديداً وحاولوا التقدم نحو القرية من جهة المرج، أي من جانب الاستحكامات العسكرية التي أقامها جيش الإنقاذ. لكن تصدى لهم المقاومون وجيش الإنقاذ ومنعوهم من التقدم، فارتدّوا إلى طريق ميرون صفد ومنها تحولوا إلى قرية ميرون، وأخذت الدبابات الصهيونية تقصف هذه القرية حتى شاهدنا النيران والدخان يتصاعد منها. وإثر ذلك هرب أهالي قرية ميرون (هذه القرية الصغيرة المؤلف سكانها من عائلة واحدة هي عائلة كعوش مع وجود بعد الفلاحين من خارج القرية).
مجزرة الصفصاف
لقد حرق اليهود قرية ميرون واحتلوها واتجهوا بعد ذلك إلى قرية الصفصاف المجاورة.
وعند الشارع الرئيسي للقرية هذه، كان ينصب مدفع، فأطلقت منه طلقة واحدة باتجاه الدبابات المهاجمة، لكن القذيفة انفجرت بالمدفع ذاته. واستمر زحف الدبابات الصهيونية من دون أي عائق. ثم طوق اليهود القرية وقصفوها ثم دخلوا إليها واستبسل جيش الإنقاذ والمدافعون عن القرية وأخرجوا الصهاينة منها، وقد سقط الكثير من الشهداء دفاعاً عن هذه القرية. ثم أعاد الصهاينة الكرة واحتلوها مرة ثانية. لكن كان إصرار المدافعين اشد فحرروها مرة ثانية. أتت للصهاينة تعزيزات إضافية فهاجموها للمرة الثالثة، بعد أن استبسل المدافعون وقدموا خلال ذلك أكثر من سبعين شهيداً، ونفدت الذخيرة منهم ليستسلموا بعد محاصرتهم وليساقوا إلى شوارع القرية ولتدوسهم جنازير الدبابات اليهودية المهاجمة وهم أحياء.
بعدما ارتكب الصهاينة مجزرة في قرية الصفصاف، اتجهت دباباتهم إلى قريتنا، الجش، وكانت تبعد عنا كيلومتراً واحداً. حاولوا تطويق جيش الإنقاذ الموجود في منطقة المرج عند الاستحكامات، ولكن تنبه لهم أحد الرقباء، الذي استطاع أن يسحب القوة المدافعة إلى خارج المنطقة، ولولا ذلك الرقيب وتنبهه لأبيدت هذه القوة بالكامل.
انسحبت قوات جيش الإنقاذ عبر طريق الرأس الأحمر إلى الحدود اللبنانية، أما أهالي القرية فهربوا أثناء ذلك، وكانت ليلة 29 -30 من تشرين الأول 1948. ودخل الصهاينة القرية مطلقين نيران رشاشاتهم وقذائف دباباتهم على كل شيء في القرية ليدمروها ويعبثوا فيها وبمنازلها وخيراتها.
الخروج من القرية
خرجتُ أنا وأهلي إلى قرية (بنت جبيل) ولحق بنا أبي بعد ثلاثة أيام. أقمنا في هذه القرية عند صديق لأبي مدة يومين، ثم تابعنا سيرنا إلى الشمال ومررنا خلال ذلك بالعديد من القرى حتى وصلنا إلى قرية (تبنين). تعبنا خلال ذلك تعباً شديداً، ومن شدة التعب نمنا تحت شجر الزيتون مقابل قلعة تبنين، كان عددنا عشرين أو ثلاثين بين رجل وامرأة وطفل.
في صباح اليوم التالي جاء إلينا أحد قادة جيش الإنقاذ، وكان يعرف أبي، فسأله عن أحوالنا فشرح أبي له ما حل بنا. ذهب الرجل وعاد بعد قليل وهو محمل بالمواد الغذائية والماء من مؤن الجيش. وقال لنا: «غداً كونوا مستعدين للانتقال من هنا». وفي الصباح جاء الضابط ومعه باص ركبنا فيه واتجهنا إلى مدينة صور اللبنانية. وهناك في محطة القطار التقينا بالكثيرين من سكان قرى الجليل التي سقطت في تلك الأيام القليلة الماضية والتي بلغ تعدادها ـ86 قرية. ركبنا القطار متجهين نحو الشمال برفقة لجنة كانت مهمتها توزيع اللاجئين على المدن اللبنانية إلى أن وصلنا مدينة صيدا حيث أُنزلت مجموعة وفي بيروت أُنزلت مجموعة أخرى وفي طرابلس أُنزلت مجموعة ثالثة. أما نحن فبقينا في القطار متجهين إلى مدينة حلب السورية. وعند وصولنا إلى هناك كان في استقبالنا من سبقنا من اللاجئين، وخاصة من مدينة صفد. وأسكنونا في منطقة تسمى (قشلة الترك) وبقينا فيها مدة ستة أشهر. نقلونا بعدها إلى مخيم النيرب وأعطوا لكل عائلة بيتاً صغيراً. واستقر بنا المقام فيه حيث ذقنا فيه شتى أنواع العذابات.
تلك المعاناة والقهر، تلك المشاعر فجرت فيّ الشاعر خليل خلالي. لقد صقلت هذه المسيرة المليئة بالآلام إنساناً مكافحاً سلاحه العلم والثقافة والأدب. لقد خضت في هذه الحياة معارك على أكثر من صعيد مع العلم، فدرست ونلت أعلى الشهادات. مع السياسة انتظمت في الأحزاب وعانيت فيها ما عانيت، ومع الكتابة كتبت فأنجزت العديد من المؤلفات شعراً وبحثاً، منها كتاب عن قريتي بعنوان (تاريخ جسكالا - الجش) ومنها كتاب (خليل خلايلي سنديانة من أرض كنعان).
متمسكون بحق العودة
وبعد هذه المسيرة وبعد فراق قريتي منذ 63 عاماً أقول إنه مهما طال الزمن بيننا وبين قرانا فلا بد من العودة إليها. ومهما طال استعمار هذه المنطقة من قبل اليهود فإنهم زائلون لا يمكن أن يظلوا في أرضنا. لقد بقي الصليبيون قرابة 200 سنة، لكنهم زالوا وأصبحوا أثراً بعد عين. واليهود الصهاينة اليوم لن يبقوا. صدقوني سيأتي اليوم الذي يصبحون فيه أحاديث الناس الغابرة، وهذا يتطلب منا الكثير لأن ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد إلا بالقوة. وأنا إذ أقول هذا أتذكر قصة كلب لنا تعلمت الكثير من مواقفه.
فأثناء هجرتنا عام 1948 كان لدينا كلب عاش عندنا أكثر من عشر سنوات رافقنا خلال الهجرة. وحين وصلنا إلى الحدود اللبنانية توقف ذاك الكلب ولم يدس الأراضي اللبنانية. نظر إلينا وحرك ذنبه ثم أدار رأسه إلى الجنوب وعاد راكضاً باتجاه القرية. وقيل لي في ما بعد إن دورية يهودية جاءت إلى بيتنا وأرادوا نسفه فهاجمهم ذاك الكلب فأطلقوا الرصاص عليه فمات.
ونصيحتي لشبابنا ولأبناء شعبي هنا في المخيمات وفي كل مكان أن نظل متمسكين بحقنا بعودتنا إلى أرضنا وقرانا ولمدننا. ولدي إيمان عميق بأن العودة آتية آتية وقريبة جداً إن شاء الله.
أنا وصلت إلى ما وصلت إليه من العمر، أكثر ما أشتهيه اليوم تلك المقبرة التي دفن فيها أجدادي مقابل جبل الجرمق، وكم أتمنى لو أراها وأدفن فيها.
المصدر: مجلة العودة