طُرد من وطنه وأرضه طفلا لم يتجاوز الثانية عشرة، ذاكرته لا تعرف سوى ما التصق بها من مرح الطفولة وبضع سنوات في مدرسة القرية، ليعود وقد شارف على السبعين من العمر وهو لا يزال لاجئاً محروماً من العودة إلى أرضه الأم، ليجدّد وينشّط ذاكرته، بل ويحدد ما لم يعايشه حتى من تفاصيل الحياة هناك في لواء جنوب فلسطين، وبالتحديد قضائي بئر السبع وغزة عبر إشرافه على دراسة مسحية تتناول جميع تفاصيل الحياة في تلك الديار قبل النكبة عام 1948، يجهد ومن معه من النشيطين أبناء تلك المناطق اللاجئين في قطاع غزة في تحصيل بياناتها ممن بقي على قيد الحياة من كبار السن العارفين بطبيعة الحياة في تلك الديار.
الأستاذ صباح سعود ثابت الذي ينتمي لقبيلة الجبارات المولود في 1935م بمنطقة المرشان التي يحدّها من الشمال قرية برير ومن الجنوب قرية الكوفخة ومن الشرق أراضي عشيرتي الدِّقس وابن رفيع، ومن الغرب قرية هوج. هو رئيس مجلس إدارة جمعية رابطة أبناء قبائل بئر السبع ومدير هيئة النقب للبحوث والتنمية والتوثيق، التقت به (أخبار النقب) في مقر الرابطة في مدينة غزة لنسجل معه وبصحبته حواراً مجبولا بعبق الماضي الجميل وجهد الحاضر وأمل المستقبل المنظور.
طفولة سعيدة
عن طفولته في المرشان يقول ثابت: 'ما أجمل أن تقضي طفولتك بين أحضان الطبيعة والخضرة، فقد كانت أرض خرابة المرشان خصبة، تنتشر بها كروم العنب والتين والعديد من الفواكه إلى جانب حقول القمح والشعير الممتدة على مرمى البصر بساطاً أخضر مرقداً وملعباً طبيعياً حمل في أحضانه العديد من أحلام الطفولة وشقاوتها'.
إلتحق ثابت بمدرسة قبيلة الجبارات، ويروي لنا عن تلك الفترة: 'كانت تبعد المدرسة عن ديارنا ما يقرب من 5 كم، لذا فقد كان الذهاب للمدرسة رحلةً يومية يجتمع لها صبية العائلة مبكراً في الصباح لنسير معاً عبر الكروم مسرعين الخطو ذهاباً بعكس رحلة العودة التي نمشي فيها الهوينى فيتخللها لعب ولهو ومرح ولا تخلو من شقاوة بريئة'.
يصف لنا المدرسة ويقول: 'المدرسة كانت عبارة عن غرفة متوسطة الحجم وبها مقاعد وتضم أربع مستويات من الصف الأول وحتى الرابع ويعلّم بها مدرس واحد هو الأستاذ عبد الفتاح البطران رحمه الله وكان من أهالي قرية الفالوجة'. يبتسم ثابت ويواصل الحديث: 'كان الأستاذ يقيم في المدرسة لعدة أيام قد تصل إلى أسبوعين في ذات الغرفة لأنه كان يأتي من الفالوجة التي تبعد عن المدرسة ما يقرب من 15 كم ممتطياً حمارته التي جرت العادة أن يوفر لها التلاميذ (العلف) حيث يجلب أحدهم كل يوم معه كيساً من التبن لحمارة الأستاذ'. تمتد الابتسامة لتشيع الضحكة ربما لقصة جادت بها ذاكرة ثابت الذي قال: 'في يوم جاء دوري في توفير علف حمارة الأستاذ، فملأت كيساً كبيراً في الصباح، ولأنه كان ثقيلاً على طفل في مثل سني حمله لي في طريقهم الحراثون إلى اقرب موقع من المدرسة، ولكن للأسف كان ذلك الموقع بعيدًا لما يقرب من كيلومتر عليّ فيه حمل الكيس ولم يكن معي سوى ابن عمتي سليم أبو ثابت فحملته على ظهري وساعدني سليم برفعه من الأسفل كي لا يسقط وبقينا في جهد ومعاناة حتى وصلنا حمارة الأستاذ أمام المدرسة وكان قد أعيانا التعب' ويعلو ضحك ثابت على تلك الحادثة ويواصل : نتيجة هذا الحمل أُصبت بوعكة لعدة أيام جراء الحمل الثقيل.
والحكايات عديدة حول المدرسة والأستاذ وحمارته المدللة، يذكر منها لنا ويقول: 'إعتاد كذلك الطلاب دعوة الشيخ (يقال للمعلم 'الشيخ' لأنه كان خريج الأزهر ويرتدي الزي الأزهري) إلى تناول وجبة طعام في منازلهم والمبيت عندهم ذلك اليوم'. وأخبرنا ثابت أن الدعوات إلى تناول وجبة الطعام كانت تكثر في شهر رمضان المبارك ويقول : 'في مرة دعونا نحن أبناء عشيرة قلازين الجبارات الشيخ لزيارتنا وتناول الفطور عندنا فوافق وانطلقنا بعد الدوام، الشيخ يمتطي حمارته ونحن نهرول ونتقافز حول الحمارة لمواكبة خطاها المسرعة طوال مسافة الخمس كيلومترات التي تفصل بين ديارنا والمدرسة'.
العدوان والنكبة
إلتحق صباح بعد الصف الرابع بمدرسة بئر السبع الداخلية ودرس فيها لمدة عام، ويذكر أنه في الإجازة عاد إلى ديارهم في خربة المرشان وقد انسحبت القوات البريطانية من فلسطين وبدأت عصابات الصهاينة تهاجم المدن والقرى الفلسطينية، عن ذلك اليوم قال: 'بدأت عصابات الصهاينة تقترب من ديارنا في المرشان وأخبار جرائمهم تسبق قدومهم فلجأت عائلتي إلى ديار أخوالي جنوب الكوفخة شرق قرية المحرَّقة حيث يقطن أخوالي الذين ينتمون إلى قلازين التياها، وأذكر أن الأنباء أتت بأنّ الصهاينة اجتاحوا المرشان وعاثوا فيها الدمار والخراب وأنهم نسفوا منزلنا الذي كان مبنياً من طوب الاسمنت، وقد شاهدت بعيني الدخان المتصاعد من خربة المرشان عندما صعدت سطح إحدى البايكات (جمع بايكة وهي مبنى من الطين مسقوف بالقش والطين يستخدم لخزن الحبوب والتبن) لدى أخوالي'.
يواصل ثابت حديثه عن سقوط قريته والقرى المجاورة لها والتي لم يكن بها سوى المواطنين العزَّل ويقول: 'بعد نحو شهر شرع الصهاينة باحتلال القرى المجاورة فاحتلوا الكوفخة والمحرَّقة وهوج، وأخيراً وصلوا إلى ديار أخوالي قلازين التياها وأراضي العقبي بجوارهم، فلجأنا إلى قطاع غزة وبالتحديد إلى البريج وسط القطاع'.
سمك مدخن
بدأت حياة اللجوء وبعد رحابة المرشان ويُسر الحال بدا يعيش ثابت ضيق اللجوء وقسوة الحاجة وللتخفيف من وطأة هذه الحياة الصعبة التي عاشتها أسرته كغيرها من أسر اللاجئين.
إلتحق ثابت بالعمل كمعلم في مدارس وكالة الغوث 'الأنروا'، وعن تلك الحقبة قال: 'في عام 1949م بدأت الأنروا في إنشاء مدارس لتعليم أبناء اللاجئين، ونظراً لندرة أصحاب الشهادات كانت الوكالة تعين الأساتذة خريجي الصف السابع الابتدائي فالتحقت بالتدريس'.
وبالرغم من أن حديثنا يدور عن النكبة ومأساة لجوء شعب كامل لم يشهد التاريخ المعاصر لها مثيلاً لم يخلُ حديثنا من الضحك وإن كان من نوع السخرية السوداء، وهذا ما يوضحه الموقف الذي يسرده لنا ثابت ويقول: 'كانت حال اللاجئين المادية صعبةً للغاية فلا يوجد أي مصدر للدخل عند السواد الأعظم منهم. وكان التحاقي بسلك التعليم إلى جانب أنني توقعت أنه سيحسن من حالنا فإنه بهدف أن تتواصل مسيرة التعليم لأبناء اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا على وعي كبير بأهمية التعليم في الحياة ولمستقبل أبنائهم، والطريف هنا أن أول راتب لي كان عبارة عن بضعة سمك مدخن وهو من الذي كانت توزعه الوكالة على اللاجئين كمساعدات غذائية أعطته للأساتذة كأجر شهري عن عملهم في التدريس'.
عمل ثابت في التعليم لمدة عامين وتلقى نظير عمله أجراً عينياً بدأ بالسمك وامتد لحفنات من الدقيق حتى تلقى أخيراً راتباً بلغ 3 جنيهات فلسطينية كما أخبرنا، إلا أنه توقف عن العمل العام 1952م ليكمل تعليمه الثانوي في مدينة غزة. وعن ذلك قال: 'بالرغم من عسر حال أسرتي أصرّ والدي أن أكمل تعليمي خاصة عندما انتقلنا للسكن في مدينة غزة، فالتحقتُ بمدرسة فلسطين ومن ثم مدرسة الإمام الشافعي حيث حصلت على شهادة الثانوية العامة منها'. ويواصل: 'عدت بعد ذلك للتعليم في مدارس الوكالة، وبعد ثلاث سنوات أصبحتُ مديراً لمدرسة بيت حانون لمدة سبع سنوات ومديراً لمدرسة مخيم جباليا لمدة خمس سنوات، وخلال هذه الفترة انتسبتُ لجامعة القاهرة وحصلت منها عام 1961م على ليسانس جغرافيا'.
رابطة قبائل بئر السبع
قضى الأستاذ ثابت 43 عاماً في سلك التربية والتعليم، وآخر مهمة تولاها في هذا المجال كانت مديراً لمركز التطوير التربوي بمدارس الأنروا في قطاع غزة، قبل أن يتقاعد عام 1995م، ويشرع في تأسيس جمعية 'رابطة أبناء بئر السبع' التي قال عن فكرة تأسيسها: 'الفكرة كانت موجودة لدى عدد من أبناء بئر السبع في غزة وتتمحور حول إيجاد جمعية أو إطار يهتم ويخدم أهالي السبع والنقب اللاجئين في غزة في عدة مجالات اجتماعية وصحية وثقافية وحتى رياضية'.
مضى اليوم على تأسيس الجمعية تسع سنوات، وبالرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها كما أخبرنا ثابت إلا أنها قامت ولا زالت بالعديد من النشاطات التي يحدثنا عنها ويقول: 'من أبرز ما قدمته الجمعية من خدمات هو المستوصف الصحي الذي أقمناه في منطقة وادي السلقا وسط القطاع بالتعاون مع وزارة الصحة الفلسطينية حيث تبرعت الجمعية بقطعة الأرض التي أقيم عليها المستوصف لخدمة أهالي المنطقة خاصة القاطنين بالقرب من مستوطنة كفار داروم'. ويضيف حول نشاط الجمعية: 'وكنشاط إعلامي وثقافي أصدرنا نشرة النقب وحاولنا أن تنتظم بالصدور لكن الصعوبات المالية التي تعيشها الجمعية تحول دون ذلك'.
وعلى يسر حال الجمعية إلا أنها تدير مشروعاً مميزاً، عنه حدثنا ثابت وقال: 'عندنا مشروع رئيس لا تتم العضوية في الجمعية ولا تصح إلا به، وهو أن على كل عضو أن يرعى مسناً من أبناء النقب اللاجئين لا معيل له'. ويوضح عن طبيعة الرعاية: 'الرعاية تبدأ من الابتسامة إلى توفير ما يستطيع العضو تقديمه للمسن. وللجمعية في شأن الرعاية نظام خاص ومفصل عن كيفيتها'.
هيئة النقب للبحوث والتنمية والتوثيق
ومن الرابطة إلى 'هيئة النقب للبحوث والتنمية والتوثيق' يمتد نشاط الأستاذ صباح، التي أسست عام 2001م وتركز نشاطها في مجال توثيق ما يتعلق بالإرث الحضاري الفلسطيني في جانبيه المادي والمعنوي وجمع الوثائق المتعلقة بارتباط أبناء الشعب الفلسطيني بوطنهم فلسطين كما أوضح صباح الذي قال: 'نظراً لظروف الانتفاضة وحالة الحصار التي تقطِّع أوصال القطاع تأثَّر عملنا كثيراً في الهيئة وانحصر نشاطنا في بعض الدورات والندوات كالندوة الثقافية الأسبوعية التي أنجزنا منها 100 أسبوع عولج فيها العديد من العناوين الثقافية'.
وللهيئة كما للرابطة نشاط مميز بالرغم من كل الصعاب، فالهيئة بصدد إنجاز دراسة مسحية عن طبيعة الحياة في جنوب فلسطين. وعن هذه الدراسة قال ثابت: 'أعددنا لهذه الدراسة استمارة علمية تتضمن عدة أسئلة تهدف إلى إيضاح طبيعة الحياة بكل تفاصيلها في لواءي غزة وبئر السبع، ونجهد في إيجاد من عاشوا وعاصروا وخبروا تلك الأيام ولا زالوا على قيد الحياة'.
لم تثنِ سنوات اللجوء الطويلة هذا الكهل من الحلم بالعودة يوماً لتلك الديار التي خرج منها طفلا، بل إنه يجهد في حفظ وتنشيط الذاكرة الجماعية لأبناء اللاجئين عبر نشاطات الرابطة والهيئة ولسان حاله يقول ويؤكد: إن لم نعد نحن فسيعود يوماً أبناؤنا، لذا يجب أن يكونوا عارفين بكل تفاصيل وطنهم وديارهم.
المصدر: موقع صحيفة اخبار النقب