سعيد بيت إيبا
عاشت فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى صدمة لم يشهد تاريخنا أسوأ منها.. أثراً معلوماً، إذ أصدرت الحكومة البريطانية وعداً لإقامة وطن قومي لليهود على ارض فلسطين الطهور.. وعدا مشؤوماً تداعى شعب فلسطين شيباً و شباناً.. نساءً ورجالاً.. يقاوم مخططاً مرسوماً انطلق العمل الفدائي.. بدأت مواكب الشهداء.. صدحت أفواه الشهادات.
استشهد هنا قائد.. فأخمدت ثورة.. اعتقل هناك شبل.. فبرقت ثورات. لمعت ثورة جهاديّة.. سعيد بيت إيبا.. علم من أعلام الثورة الوطنيّة في بيت ليد الروابي.. بيت ليد الكرم و الجود.. بيت ليد العمليات الفدائيّة.
فمن هو سعيد بيت إيبا..؟ ولماذا كانت حكايته إحدى حكايات بلدتنا بيت ليد؟
الحكاية
يُقال إن شاباً في الثلاثينيات من عمره أو اقترب، قائداً من قادة فلسطين.. سليل المجد كريم الأصل.. رفيع الحسب طاهر النسب مناضلاً مجاهداً، يقضي ليله سامراً، صياداً ماهراً، لجيش الأعداء قانصاً، نذر روحه فداء لوطنه، لا تأخذه في الله لومة لائم. يذرع الأرض ليلاً.. خلف أعداء شعبه.. من اليهود الأنجاس والعلوج الأعاجم.
طارده الانجليز من قريته بيت إيبا الأبية.. بلدة وادعة على سفوح عيبال الغربية، هرب من جبل الى سهل، تسلّق من واد الى تل، انسل من بيت الى بيت، اختفى من زقاق الى زقاق، حتى وصل مع زملائه الى بلدتنا بيت ليد ــ بلد الحساسين، في يوم من أيام ثورتنا الأولى، ثورة السادس والثلاثين.
وتبدأ الحكاية
لجأ المناضل إلى المسجد القديم، رافضاً أن ينام في بيت عبد الله الصالح.. صديقه الحميم أو أي بيت من بيوتنا خوفا علينا من العقاب وعلى بيوتنا من الهدم، حرصا على بناتنا من الإهانة وعلى أخواتنا من السباب والشتم قدّم له أهلنا الطعام و الشراب، المال و العتاد، كل حسب قدرته، متخذاً من حاتم الطائي قدوه.
التف حوله المناضلون، لازمه المجاهدون، يحرس شبابنا ومناضلونا ــ ليلا نهارا...رؤوس الجبال، يرقبون تحركات جيش الأعداء.. يرمقون بقلوبهم الأرتال، وفي فجر أحد الأيام، اقترب القدر المحتوم. أفاق بطلنا من النوم، قاصداً منطقة الخنادق، لقضاء حاجة، كي يتوضأ لصلاة الفجر، فاجأته طائرة من طائرات العدو، تجوب الفضاء، و تضيء السماء، بحثا عن المناضلين، وعلى رأسهم سعيد بيت إيبا قائد المجموعة الأمين. أدرك قائدنا الخطر، عاد مسرعا الى المسجد، ولم ينتظر أخذ عتاده و سلاحه، وغادر المسجد مع زملائه. انتشر الخبر خلال لحظات في شتى أرجاء القرية، استعد الناس للقادم، وفي لحظات، كان جيش الانجليز يحاصر قريتنا، ويقتحمها من منافذها الأربعة، يجمعون النساء قبل الرجال، الفتيات قبل الأطفال، على أحد البيادر خارج البلدة، وهو الآن في وسطها تقريباً، أقيم عليه منزل السيد الفاضل فوزي عامر أبو بهاء مهددين أهلنا بالإعدام الجماعيّ إن لم يعترفوا عن مكان اختباء مناضلنا سعيد بيت إيبا القائد العصاميّ.
فرّ بطلنا نحو الجنوب، توقع بحدسه أن يكون الجيش قد كمن له في منطقة البركة اتجه نحو منطقة (حريقه سيف) تاركاً العدو على يمينه، و لكنه القدر المحتوم، قدّ الله وما شاء الله فعل.. وفي تاريخنا.. يوم مشئوم أطلق عليه قناص رصاصات بندقيته الحاقدة، سقط على إثرها بطل من أبطال ثورتنا شهيداً على ثرى بلدتنا بيت ليد، بعد أن عاش ردحاً من الزمن.. فريداً.
طارت روحه الى بارئها، مودعة الدنيا وما عليها، إلى جنات الخلد إن شاء الله.. كان لها توّاقا مريداً وجرح في العملية أحد زملائه.. لازمه دهراً طريداً.
وصل العدو إلي جثمانه الطاهر، قلّبوا الجثمان الطاهر.. وتأكدوا أن الشهيد قد فارق الحياة، اقترب منه أحد الجنود الحاقدين، ركله برجله اليمين صرخ بوجهه الضابط المسئول.. لو كان حيا.. لكنت مختبئا في الحقول ترجم ذلك فارس العطعوط.. فتى مأمول فرح العدو بهذا الانجاز العظيم، غادرت أرتال العدو بلدتنا خلال لحظات، أفرجوا عن أهلنا الرهائن، حرّروا الشيوخ و الأطفال و الأمهات توجه الناس الى مقام الشهيد، ندب الناس حظّهم بصوت واحد.. استشهد مناضلنا البطل سعيد، دوى بكاؤهم...في شتى أرجاء الوطن.. قامت الثورة من جديد
وصل الخبر الى مسامع والدته في قرية بيت ايبا، فتظهر خنساء أخرى من خنساوات فلسطين، إذ تحضر وأخواته الى بلدتنا، من الطريق الشرقية، يلبسن ملابس الشهيد، يطلقن الرصاص في الهواء، يزغردن، يرددن الأناشيد الوطنية و الحماسية، يحملن الأعلام، يتوحشن الكوفيات تستقبلهن بلدتنا، بكل فئاتها، بكل أطيافها، تقف النساء الى جانب الرجال يركض خلف الموكب - هاتفين بالنصر – الأطفال.
يُحمل الشهيد على الأكتاف في موقف مهيب، تتقدمه أمه وأخواته، منظر لم يعهده الوطن السليب ويغادر موكب الشهيد الى مسقط رأسه قرية بيت إيبا.. بلد مجاهدنا الحبيب. وهناك...يوارى جثمانه الطاهر الثرى، وينتهي فصل من فصول الثورة، ثورة العلا لا تنتهي الحكاية، ولا يسدل الستار بل تنطلق الشرارة....و يبدأ المشوار.
والله تعالى أعلى و أعلم
من موقع بيت ليد الأبية