نبيه غرزوزي من ترشيحا يروي كيف فقد أعزّْ ما يملك
أجرى اللقاء رفيق بكري- موقع صحيفة الحقيقة الالكتروني
ليس من قبيل الصدف أننا في زاوية ذاكرة وطن نعيد الكرَّة أحيانا في الحديث عن بلد ما، وذلك للأهمية التاريخية ولحجم المأساة التي لحقت بهذا البلد، فكم بالحري في بلد فاطمة الهواري التي رفضت أن تسامح ايبي نتان ربّان الطائرة التي قصفت ترشيحا وأقعدتها على كرسي عجلات حتى يومنا هذا.
قرية ترشيحا التي أرادوا أن يكون مصيرها كمثل باقي القرى التي دمرت وهجّر أهلها عام 1948 صمدت وبقيت، إلاّ أن معظم أهلها هجِّروا.
وفي قرية ترشيحا التقينا هذا الأسبوع مع نبيه حنا متري غرزوزي (أبو نسيم) 76 عاماً الذي كان لقصة تعارفه بزوجته إم نسيم علاقة برائحة زهر القندول والزعتر وعندما طلبت منه أن يحدِّثني عن لقائه الأول مع أم نسيم قال لي: ممكن أحكيلك بس شو رأيك بلا كتابِة؟... قلت له: دعني أكتب كل شيء وبعدين مِنقَرِّرْ سوا ننشر القصة أو نِلغيها... واتفقنا فيما بعد أنه رغم أن القصة شخصية إلى درجة كبيرة ولكن يمكن نشرها لما فيها من معاني وعمق كبيرين.
شُفتْ صبيِّة بِتحَوِّشْ تين وبإيدها سَلِّة
بدأ أبو نسيم يروي بشغف كيف تعرّف على زوجته وفي لحظات معيَّنة لم يتمكن من حبس دمعته وقال: بعد الاحتلال بأشهر معدودِة رْجِعنا على ترشيحا، ويوم أجا على بالي أطلع على تَلِّة إسمها لِمْجاهِد قِبليّْ البلد وفيه بِنايِة إسمها (المزارْ).. قررت أروح لهناك أحوِّشْ شويِّة تين بياضي اللي قلبك بِشتهيه.. لمّا صرت على بُعد خمسين ستّين متر من التينِة، شُفتْ صبيِّة بِتحَوِّشْ تين وبإيدها سَلِّة، بِتحوِّشْ وبِتحُطّْ بِالسلِّة، وحواليها ثلاثْ أربعْ كلاب بِدوروا حواليها، وهالصبيِّة مِستمِرِّة بِحْواشْ التين ومِشْ خايْفِة، ولمّا يْقرِّبْ الكلب منها تُلُبْطوا بإجريها من غير خوف وِتكمِّلْ حواشْ التينْ ... زاد حماسي وتَشوُّقي بَدّي أعرِف مين هالبنت اللي قلبها هالقدّْ قوي، وخِفت عليها من لِكلابْ... لمّا قَرَّبت شُفت لِكلاب بْتِنْهَشْ بجثِّة مقاتل من جيشْ الإنقاذ مْسِكت حجرينْ بإيديّْ وضربت عليهِنْ... ولَمّا وصِلتها وكان بيناتنا بَسْ مِترينْ قُلتِلها: شو بِتساوي هون؟.. قالَتلي: بَدّي أنقِّبْ شويِّة تينْ وأروِّحْ... سألتها كيفْ مِشْ خايفِة؟... قالَتلي: أنا بَخَفشْ.. قلتِلها: اطّلعي حواليكي كلاب كاسرِة زَيّْ النْمورَة.. قالت: تفضَّل كُلْ تينْ.. أكلت شْويِّة تينْ وتحدَّثنا مع بعض ومشيت عالبيت وهالصبيِّة ما تَركَت حواشْ التين، عاوَدتْ رْجِعت قُلتِلها: إرجعي عالبيت أنا خايِفْ عليكي من لِكلاب وغدر الزمانْ.. قالتلي: رَوِّحْ إنتي أنا مِشْ خايْفِة.. بعِدها حسّيت إنّو لِقلوب لازم تُدخُل على بَعضها، وفعلاً دخلت، وصارت الزيارات مستمرِّة بيناتنا إلى أن صار النصيب، ولكن ياريت ربنا كمّل مسيرِة السعادة والحياة الجميلِة، إم نسيم وتوفَّت قبل سبع سنين تقريباً وتركتني لحالي.....
كانوا الإنجليز يِرموا المُخالفينْ بِبِرْكِة البلد القَذِرِة
قلت: تعال يا بو نسيم نِحكي بالأول عن محطِّة الانتداب البريطاني...
أبو نسيم: كان عُمري بهذاك الوقت سِتّْ سَبعْ سنين بسْ بَذكُر كل شيء، وحياة أبويْ كان دايْماً يحكيلي.. بَذكُر كان في مُنادي من ترشيحا يِطلَعْ على الجامِعْ وِيْنادي: يا أهِلْ تَرشيحا في أوامِرْ تِتْجَمّعوا في لِكنيسِة.. مرات كانوا الإنجليز يِجمّعوا أهل البلد في لِكنيسِة ومرات على البيدر أو في المدرسِة، يِعمَلوا طوقْ على البلد بشكل فُجائي ويِنتِشروا في شوارع ترشيحا. بعدين الجيشْ يوخُذ الناس على بِركِة البلد... قلت لأبو نسيم: ليشْ يعني عالبِركِة؟... أبو نسيم: البِركِة كانت مَلانِة مَيّْ وِسْخَة وقَذِرِة، لأنّو الطَرشْ كانْ يِشْرب منها ويِوَسِّخْ فيها، وكانوا أهل البلد يِسقوا التِبغْ منها... الجيشْ يِحَوِّطْ البِركِة ويمنعوا الناس من أيْ حركِة، يجيبوا اللي مْخالفينْ وما يسألوهِنْ إذا بِعِرفوا يِسبَحوا، يِِرْموهِنْ قُدّام الناسْ في البِركِة، وما يِسمَحوا لَحدا يتحرَّكْ ويطلِعهِنْ. كانت مُدِّة الطوق تِستَمِرّْ 24 سيعَة وبعدين يِطِلقوا سراحْ الناسْ.
القُنبُلِة أجَتْ على زَتونِة جَنبْ والدي وقَسْمَتها شَقِفْتينْ
وتابَع أبو نسيم: مَرَّة راحْ والدي يِطُلْ على سِتّي الخِتيارَة في كَرمْ التين جنب البلد، وصارت طيّارات الإنجليز تِرمي أزاناتْ (قنابِلْ)، وِقِعْ أزانْ قريبْ من والدي، قامْ انْبَطَحْ عالأرضْ، والقُنبُلِة أجَتْ على زَتونِة جَنبو وقَسْمَتها شَقِفْتينْ، وبعدين شاعْ الخَبرْ في البلد إنّو أبويْ قَتلَتوا الطيارَة، بَسْ بعد أقلّْ من ساعتين رِجع والدي عالبلد طَيِّبْ والحمد لله.
بهذاك الوقت كانت تْصير معارِك بين الثوار والإنجليز، وخَرَّفْني والدي إنّو صارَت معركِة على جبل الجَرمَق بينْ الثوار والجيشْ البريطاني استشهد فيها قائد من الثوار إسمو (الأَصْبَحْ)، بِحْكوا عَنّو إنّو كان رَجُلْ شُجاعْ.
حيكَت مؤامرة عِنّا في ترشيحا بِقتل 25 شخص من وجهاء البلد ومنهم والدي
وتابع أبو نسيم وقال: بَدّي أحكيلَك قُصّة مُخجِلِة بَسْ بِدونْ أسامي.... مع اقتراب انتهاء الثورَة ضد الإنجليز، حيكَت مؤامرة عِنّا في ترشيحا بِقتل 25 شخص من وجهاء البلد ومنهم والدي، وبعد ما انفَضحَت المؤامرة كان في شخص من قيادة الثوار على عِلِمْ بالمؤامَرة وأخبَر بعض الوجهاء عن تفاصيلها، وقاموا أهالي ترشيحا طَردوا كل الثوار من البلد.
كُنّا نِطْلَع بَرَّة نِتفَرَّجْ كيف كانت الأزانات تِنزل فوق معليا وترشيحا
قلت: شو رأيك يابو نسيم نحكي إسّا عن المحطة الثانية.. عن نكبة الـ48؟...
أبو نسيم: في الـ48 لمّا قصفوا ترشيحا كان عمري 16 سِنِة، كنّا نِسمع دَوِيّْ الطيارتين اللي قصفوا البلد، نِطْلَع بَرَّة ونِتفَرَّجْ كيف كانت الأزانات تِنزل فوق معليا وعلى ترشيحا وتنفجِر وَحَدِة ورا الثانْيِة واسمِعنا كمان قََِصفْ سُحماتا حَدّْنا.. وبَذكُر وِقِعْ أزانْ على بيت (صادق عُمر) معلِّم اللغة الإنجليزية في المدرسِة، وشَنصو إنّو ما كان في البيت وَقتها.
نِزلوا الجنود اليهود من الباصات وصاروا يِوزعوا علينا الحَلوى
وتابع أبو نسيم: لمّا اشتدّْ القصف على ترشيحا شُفتْ الناس بِعيني بِتْحمِّلْ لِفْراشْ وغراضْ البيت على الدوابْ وبِشَمْلوا للشمال تلا لِبنان، وبِقي في البلد بسْ العَجَزِة ولِخْتيارِيِّة، ووالدي من اللي بِقيوا.
فات الجيشْ على البلد وجمع الناس في الجامِعْ، وأمرهِن يِروحوا على بيوتهِن وما يِطلَعوا منها. أنا وإخِوتي ووالِدتي هَرَبنا على لِبقيعَة عِند أُختي. ولمّا دَخلوا اليهود على لِبقيعة كان إلي صاحب بِقُللي: تعال نروحْ نِتفرَّجْ على الجيشْ.. رُحنا على عين المَيّْ وشُفنا ثلاث باصات مَلانِة جنود، نِزلوا من الباصات وصاروا يِوزعوا علينا الحَلوى.. قلت لَصاحبي: أنا مِشْ مِتْطَمِّنْ إسّا بِقُتلونا.. قللي: ما تخاف بِعمَلوشْ معانا إشي... وبعد اسبوعين رِجِع أخويْ الصغير مع إبن عمّي على ترشيحا، وبعِدها بعث والدي إلنا رسالِة شفهيِّة مع الزيناتي (يهودي من البقيعة) بُطلُبْ مِنّا نِرجع على ترشيحا، وفِعلاً رْجِعنا.
إنتي إطلَعْ عالسيارَة وإنتي رَوِّحْ عالبيت
قلت: وكيف سمحولكوا تظلّوا في البلد؟...
أبو نسيم: بعد ثلاث تُشهُر تقريباً من الاحتلال عِمل الجيش الإسرائيلي طوق على ترشيحا، وجَمعوا الناس بِقِطعِة أرض جنب البلد، وأنا كنت موجود بيناتهِنْ.. أجا جُندي يهودي وصار يِنادي بالإسم واحد واحَد يُوقَفْ قُدّامْ القائد، وصار هذا القائد يقول للناس: إنتي إطلَعْ عالسيارَة، وإنتي رَوِّحْ عالبيت، إنتي إطلع عالسيارة وإنتي رَوِّحْ عالبيت... وبِالآخِر ساقوا الناسْ اللي بالسيارات وكبّوهِن على الحدود.
وإحنا اللي ظَلّينا جَمَعونا بعدين في ِلكنيسِة وأجوا موظّفين الإحصا صاروا يوزّعو علينا قَسايِم هويّات، لكن أغلب أهالي ترشيحا تهجّروا من البلد وما رِجعوا، وقامت الحكومِة عيّنت قَيِّم على أملاكْ الغائبين وصار يتصَرَّفْ فيها كما يشاء. وبعِدها جلبوا عائلات يهوديِّة من رومانيا وسكَّنوهِنْ في بيوت المهجّرين.
المعلمة الرومانيِة سلفيا
قلت: قدّيشْ عاشوا الرومانيين في ترشيحا؟...
أبو نسيم: ما طَوّلوا الرومانيين كثير في ترشيحا، اليهود بعدين بنوا مستوطنِة معونَة، ونقَلوهِنْ عليها وما بِقي منهِن حدا في ترشيحا.
بذكُر في وقتها كنت أشتغِلْ في شركِة (السولل بونيه) في ترميم البيوت، وِتعرَّفت على إمرأة رومانيِّة إسمها سِلفيا وطلبت منها تعلِّمني الرومانية والإنجليزية (قراءة وكِتابِة)، وفعلاً تعلمت لمدِّة شهرين، ولمّا خَلّفت إم نسيم بنت سمّيتها سِلفيا على إسم ِلمعلمِة الرومانيِة.
البندورة البعليِّة كانت أطيب من اللحمِة
قلت: شو اللي اختلف في معيشِتكوا بعد النكبِة؟....
أبو نسيم: قبل النكبِة كُنّا عايْشين ومبسوطين، كان عِنّا بُستانْ تينْ وبُستانْ تُفّاح، وزتون، وأرض نِزرَعها كل أنواع لِحبوب، تشوف البندورة البعليِّة اللي أطيب من اللحمِة ما ظلّْ منها اليوم، وكان عِنّا طَرشْ وجاجْ بلدي ومِشْ ناقِصنا إشي.. كنت أشتغِلْ مع أبويْ في لِفلاحَة، ولليوم في قِطعِة أرضْ ملانِة صخور ومسجّلِة على إسمنا في الطابو.
مِسِكني البوليص مرتينْ بدون تصريح
ولمّا أجوا اليهود وبِدي الحكم العسكري اشتغلت شويْ في شركِة (السولل بونيه)، وبعِدها اشتغلت بَلاّطْ في شركِة للكيبوتْساتْ وصُرتْ أتنقَّلْ من كيبوتس لآخر.. حتى الشغُلْ بِالعامِلْ كان صِعب وبِالتَهريبْ لأنهِن ما كانوا يِعطونا تَصاريحْ عَشانْ نِقدَرْ نِتنقَّلْ.. وبَذكُر مِسِكني البوليص مرتينْ، مَرَّة واحنا بِطريقنا على الشُغل في كيبوتس (برعام) اللي أقيم على أراضي كفر برعم، يومها أخذونا على مركز بوليص صفد وهناك عِملولْنا مخالفِة، ونزّلوني أنا والعمال لَلمحكمِة بِعكا وفَرَضوا علينا غَرامِة خمس ليرات لكل واحد فينا، ومرّة ثانيِة مسكونا عِند فراضيِة وإحنا في طريقنا على الشغُلْ لَكيبوتس حدّْ كريات شمونِة.
يا ريت إم نسيم عايْشِة وتكمِّل باقي هالعُمر معي
وقبل ما ننهي اللقاء مع أبو نسيم قُلتِلّو: شو الخسارة لِكبيرِة اللي عانيت منها كثير ولليوم ما بتنساها؟... قال أبو نسيم بغصّة وحزن: يا ريت إم نسيم عايْشِة وتكمِّل باقي هالعُمر معي... موتها أثّر عليّْ كثير.. الإشي الثاني النكبِة واللي حلّْ فينا، عَمتي نِجمِة عبليني وجوزها طِلعوا في الـ48 من البصَّة على لبنان وما قِدروا يرجعوا، جرَّبنا كثير نعمل مُعاملات عَشان يِرجَعوا بَسْ ما نَجَحنا.. بسْ اللي بقدر أقولو ما علينا إلاّ نصبر على الصعاب وما نستسلم.