الشقيري، الشيخ أسعد: (1860-1940)
(العالم الأزهري، مفتي الجيش الرابع العثماني في إبان الحرب العالمية الأولى. تولى قبل ذلك رئاسة مجلس التدقيقات الشرعية، وكان من أقطاب حزب الإتحااد والترقي في الدولة العثمانية. بقي مؤيداً للعثمانيين أيام الإنتداب، لكنه انضم إلى صفوف المعارضة النشاشيبية، فكان أبرز أقطابها في شمال فلسطين.)
ولد الشيخ أسعد في مدينة عكا، والتحق بمدرستها الإبتدائية. ونحو سنة 1875 رحل إلى الأزهر، ودخل رواق الشوام فيه، وواظب على حلقات دروس الشيخ جمال الدين الأفغاني وخلفه الشيخ محمد عبده. وبعد إنهاء دراسته في الأزهر، عاد إلى عكا والتحق بالقضاء الشرعي، فعين قاضي المحكمة الشرعية في شفا عمرو. وفي سنة 1904 عُين مستنطقاً (قاضي تحقيق) في اللاذقية. وقد وصفه يوسف الحكيم في الجزء الأول من ذكرياته، «سوريا والعهد العثماني»، بأنه كان معروفاً بـ «حدة الذكاء وحسن الإدارة والإخلاص لواجبات الوظيفة.» وفي سنة 1905 وصل إلى الآستانة، وهناك تعرف إلى الشيخ السوري المتصرف وخصم جمال الدين الأفغاني، الشيخ أبو الهدى الصيادي. وأصبح من مقربي الشيخ المذكور، فعينه أميناً من أمناء مكتبة السلطان عبد الحميد. وبعد فترة عين رئيساً لمحكمة الإستئناف الشرعية في مدينة أضنة، وفيها تزوج سيدة تركية أنجبت له أنور، وعفو، وعبد العفو. وأخذ يتردد على الآستانة، وفيها تزوج سيدة تركية أخرى أنجبت له ابنه أحمد. ونتيجة لنشاطه السياسي وصلاته ببعض زعماء الإصلاح، أمثال عبد الحميد الزهراوي، أوجس السلطان عبد الحميد وزبانيته خيفة منه، فأمروا باعتقاله، وأبعدوه إلى قلعة تبنين في جنوب لبنان، وفيها ولد نجله أحمد.
بعد إعلان الدستور العثماني سنة 1908، أُفرج عنه فعاد بعائلته إلى عكا، ورشح نفسه لعضوية مجلس المبعوثان العثماني، فانتخب وأصبح ممثل عكا في المجلس المذكور. وفي إستنبول جدد علاقاته برجال حزب الإتحاد والترقي، أمثال أحمد جمال وأنور طلعت، فانضم إليهم وأصبح من أركان هذا الحزب. وساهم مع شكري الحسيني في فتح فرع للحزب في القدس ونشر الدعاية له في أنحاء فلسطين. وكان الشيخ أسعد من أبرز أنصار الفكرة الإسلامية العثمانية عشية الحرب العالمية الأولى، فحارب أفكار جمعية اللامركزية، ودعوات الإستقلال والإنفصال عن الإمبراطورية العثمانية. وانتخب نائباً في مجلس المبعوثان مرة أخرى في الدورة الثالثة سنة 1912، وبقي فيه حتى سنة 1914. وخلال تلك المدة أبدى الشيخ أسعد حماسة منقطعة النظير للدولة العثمانية. فلما عقد المؤتمر العربي العام في باريس سنة 1913، اشترك في إنشاء حزب معارض مؤيد للفكرة الإسلامية وللسلطان. وسافر أيضاً مع وفد يمثل بلاد الشام إلى الآستانة لتأكيد ولاء العرب للدولة العثمانية، وكان ذلك عشية الحرب العالمية الأولى.
وبعد إعلان الحرب العالمية الأولى عين الشيخ أسعد مفتياً للجيش الرابع وأصبح أحد المقربين من قائده جمال باشا السفاح. ورأس في تلك الفترة البعثة الإسلامية العربية التي خرجت من دمشق في أيلول (سبتمبر) 1915 لتعلن ولاء أهالي البلاد للسلطان والدولة العثمانية. وقد ضمت البعثة 31 أديباً وعالماً يمثلون بلاد الشام، وأمضت في الآستانة بضعة أشهر عادت بعدها إلى البلاد. وقد ارتبط اسم الشيخ أسعد أيام الحرب العالمية الأولى بقضية إعدام أحرار العرب النشيطين في الجمعيات القومية والوطنية. فاتُهم الشقيري بأنه وشى إلى السفاح جمال باشا ببعض هؤلاء وأوغر صدره عليهم. فكان من الطبيعي أن يذكر له دوره هذا وأن تهاجمه الصحافة الفلسطينية فيما بعد. وقد تبرأ الشيخ أسعد من تلك التهمة، ودافع عن نفسه، وكذلك فعل نجله أحمد الشقيري ومجموعة من علماء دمشق استشهدت بمذكرات جمال باشا نفسه لإثبات البراءة. ولما انسحب الجيش العثماني من فلسطين، لجأ الشيخ أسعد إلى مدينة أضنة في تركيا، وأقام بضعة شهور لدى أهل زوجته. ولما هدأت الأمور في فلسطين ركب باخرة من أضنة ونزل في حيفا. وبادرت السلطات البريطانية إلى اعتقاله بحكم صلاته الودية بالمسؤولين الأتراك، ونقلته إلى معتقل أبي قير بالقرب من الإسكندرية، حيث بقي أربعة عشر شهراً. وفي سنة 1921 أُطلق، فعاد إلى عكا وبقي بضعة شهور يثبت وجوده لدى الحاكم العسكري البريطاني حتى إنشاء حكم الإنتداب المدني.
وكان الشيخ أسعد في بداية حكم الإنتداب من أجدر الناس علماً وثقافة، فلما تسلم الحاج أمين الحسيني رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى لم يجد له مكاناً في قيادة الحركة الوطنية، فانضم إلى صفوف المعارضة. وبقي حتى بعد سقوط الإمبراطورية العثماية مؤمناً بالفكرة الإسلامية العثمانية، مدافعاً عنها ومعادياً للحركة القومية العربية. وقد كتب عدة مقالات في الصحف، معارضاً القومية العربية وتنظيماتها، ومؤكداً أنه في ظل الدولة العثمانية كان للعرب حقوق المساواة التامة، وبعد إقامة الجمهورية التركية ظل على علاقات ودية بكمال أتاتورك. وقد أرسل له هذا صناديق مملوءة بنفائس الكتب العربية النادرة، على سبيل الذكرى، بعد استبدال الحروف العربية باللاتينية في اللغة التركية. وكان لانضمام الشيخ أسعد إلى صفوف المعارضة أثر كبير في الجليل وشمال فلسطين، فأصبح هذا الجزء من البلد من أقوى معاقل المعارضة للمجلسيين. ودعم الشيخ أسعد «الحزب الوطني العربي» وتنظيمات «الجمعيات الإسلامية الوطنية»المعارضة للجنة التنفيذية وللمجلس الإسلامي برئاسة آل الحسيني. وكان الشيخ أسعد على علاقات ودية وطيدة برجال الحركة الصهيونية، وكان ينسق معهم طرق مقارعة ومحاربة اللجنة التنفيذية والمجلس الإسلامي. وكانت إقامة الحزب الوطني العربي سنة 1923 أكبر مثل لذلك، وكان للشيخ أسعد ورئيس الشعبة السياسية في المنظمة الصهيونية، فريدريك كيش، دور أساسي ومهم. وظل الشيخ أسعد على مواقفه السياسية الإسلامية والمعارضة للمجلسيين وللقومية العربية عامة طوال فترة الإنتداب، إلى أن توفي. وحتى حين جرت محاولات لرأب الصدع والإتفاق بين زعامات المجلسيين والمعارضة في القدس، وقف الشيخ أسعد ضد ذلك، مثلما حدث في أواخر العشرينات. وبالإضافة إلى اشتراكه في المؤتمرات والمهرجانات والمناسبات السياسية، كان الشيخ أسعد يعبّر عن مواقفه بالمقالات الكثيرة التي كان ينشرها في الصحافة الفلسطينية.
وفي أواخر العشرينات، انقسمت «المعارضة» على نفسها، فساهم الشيخ أسعد مساهمة كبيرة في إقامة حزب الأحرار سنة 1930. وعندما دعا الحاج أمين الحسيني إلى عقد المؤتمر الإسلامي العام في كانون الأول (ديسمبر) 1931، توحدت المعارضة مرة أخرى لمقاطعة المؤتمر ومحاربته. وبالتعاون مع الإنكليز، دعا رجال المعارضة إلى مؤتمر آخر سمّوه «مؤتمر الأمة الإسلامية الفلسطينية» في أثناء انعقاد المؤتمر الإسلامي العام. وكان الشيخ أسعد وراغب النشاشيبي على رأس القيّمين على هذا المؤتمر، الذي أثار سخطاً عاماً لدى الجهات الوطنية داخل فلسطين وخارجها. وكان أبرز مقررات المؤتمر المعارض مقاومة المجلس الإسلامي ورئيسه الحاج أمين الحسيني. واشتد عود المعارضة في الثلاثينات، ودعا أقطابها إلى إقامة «حزب الدفاع الوطني» في كانون الأول (ديسمبر) 1934. وقد خطب الشيخ أسعد في مؤتمر الحزب في يافا مهاجماً القيادة الوطنية ومدافعاً عن المندوب السامي البريطاني، وكان مما جاء في كلمته:
« لقد أشغلنا الزعماء ست عشرة سنة متوالية بمظاهرات وإضرابات ونداءات. وأما المندوب السامي فهو رجل رقيق القلب ذو عاطفة شديدة ولكنه موظف وهو يعطف على العرب عطفاً كلامياً بسبب أنه مغلول اليدين وهل في وسع القدس أن تعمل شيئاً لا توافق عليه لندن.»
وظل الشيخ أسعد على مواقفه من المجلس الإسلامي والحاج أمين الحسيني حتى آخر أيامه، قطباً من أقطاب المعارضة في شمال فلسطين. وفي أيام الثورة التي نشبت سنة 1936، اغتيل ابنه الدكتور أنور، وكان هذا الإغتيال إحدى نتائج الخصومات السياسية العشائرية بين المجلسيين والمعارضة التي استغلها الإنكليز والصهاينة لإنهاك الحركة الوطنية وشأنها عملياً. ولم يعمّر الشيخ أسعد بعد وفاة نجله فتوفي في شباط (فبراير) 1940، ودفن في مقبرة الشيخ مبارك في مدينة عكا. وكان للشيخ أسعد مذكرات أملاها على شقيقه قاسم الشقيري. وبعد وفاة الشيخ أسعد تسلمها نجله أحمد الشقيري ليعيد النظر فيها (بحسب قول العودات) لكنه لم يتم تنقيحها، فظلت في أوراقه حتى احتل اليهود عكا سنة 1948، فنهبت المكتبة وضاعت تلك المذكرات أيضاً.
أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني
عادل مناع