المقال |
فرح وشعور أخر
لقد دخلت البيت في ظهر يوم ألجمعه 11 فبراير فإذا بي أسمع صوت عمتي آم نجيب تردد في صوتها العالي : الله لا يوفقه ما نيمناش مبارح ابن هل الحرام سهرنا للساعة 11 وبعد الثاني رفض أن يتنحى وكأنها عزبة أبوه .
دخلت الى البيت طرحت السلام على الموجودين دون أن انظر إليهم وعندها تغيرت اللهجة وتغير الموضوع .دخلت وجلست في مقعدي المحبوب الذي طالما كانت يانا الصغيرة تحاول أن تستفزني بالجلوس عليه ولكن كما تعلمت في الحياة الحزبية إن الشيوعي أخر من يستفز , كالعادة رأيت أمي نائمة على سريرها في وسط الغرفة ولا أرى أي تحسن في عيونها قلت في نفسي ها هي أم رامز تذوب أمام أعيننا , طبعا كلنا نتمنى لها الشفاء العاجل والعودة لإشغال ذلك الفراغ الذي حصل بعد مرضها ولكن من جهة أخرى كلنا نعلم أن ذلك المرض اللعين قد نال منها إلا أن قلبها القوي , هو عزوتها فان هذا القلب الذي شاهد الكثير , ما زال قويا يأبى أن يستسلم . لقد شاهد قلبها الكثير من معاناة شعبنا الذي ترك بآثاره على صحتها ابتدأ بالتهجير, فبينما كان أطفال العالم يلعبون كانت فوزيه بنت الأربع سنوات تحمل كيسا صغيرا فيه , لا ليس ألعابها , بل بعضا من متاعها وتسير ويسير إمامها وخلفها المئات من أبناء كويكات والقرى المجاورة في رحله العذاب " الرحله إلى المجهول " . كان يكفي بهذه الحادثة لكي توقف قلبها الصغير ولكن أي وقوف والطريق طويل أممها .
لقد نشأت في عائلة صغيره , ووالدها ذلك الرجل الحر أبى أن يصدق انه وزوجته وأولاده بين يدي القدر افترشوا ارض بنت جبيل وأكلوا عشب الرشيدية وشربوا ماء عين الحلوة , حتى إنهم شاهدوا بحر بيروت من تلال برج البر اجنه الرملية . كل هذا المشوار لم يثن قلب فوزيه الصغيرة . لقد شبت أم رامز على أن لها وطناً ليس ببعيد وأنه لها عم وابن عم في ذلك الوطن . لذلك قررت نزولا عند رغبة والدها أن تربط حياتها بابن عمها
" يا للفرحة لقد عادت فوزيه إلى ارض الوطن" قالت ومن ثم زغردت عمتي أم محمود . هذا الشعور الذي كان يتمناه كل فلسطيني في الشتات , لكن هذه العوده تركت في قلبها جرحا كبيرا, إذ أنها اختارت العوده إلى الوطن وفي نفس الثانيه أصدرت على نفسها قرار إبعاد قصري عن أهلها وإخوانها إلى اجل غير مسمى . هذا أيضا لم يسكت قلب أم رامز .
تحدت المستحيل لكي تحصل على أي معلومة عن أهلها في ظل المجهول الذي ساد لبنان في تلك الفترة . كل هذا ليس بكاف ؟ لقد فقدت أخوها المريض الذي مات بدون علاج وبعدها ليس بوقت طويل فقدت أختاها الشهيدتان منور ومنى اثر قذيفة أردتهما قتيلتان بينما كانتا في طريقها للتزود بالطعام في ساعة وقف إطلاق النار في برج البراجنه بعد اجتياح بيروت , هذه الإحداث الاليمه لم تنل منها لا بل زادتها قوة وعنفوانا رأت في وجودها هنا رسالة عليها تأديتها , حرصت دائما أن تبقى كحلقة الوصل بين الوطن والمهجر , بين شطري برتقالتنا العائلية.
علاء علاء أين أنت ؟ بماذا تفكر ؟ , قطعت أم نجيب سردي السريع لتاريخ أمي , فقلت : لا إني تعب قليلا فانا لم انم بالأمس , كنت في البداية انتظر ذلك الخطاب الهام الذي أعلنت عنه قنوات التلفزه وتذكرت في نفسي ذلك الشعار الذي رفعه احد المتظاهرين " ارحل بقى ايدي وجعتني " وقلت هل حقا بقي فيه قطرة من الدم والكرامة ليستقيل ويريح يد ذلك المتظاهر البطل وكل أهل مصر وآلامه عامه , لكن أتى الخطاب ليقطع الشك باليقين " أنا هنا مش خارج " عندها تحول الشعور بالفرح والأمل إلى شعورا أخر لم أعهده من قبل , من الممكن أن هذا الشعور الخليط بين الخوف والمخفي , هذا الشعور يأتي فقط في مثل هذه الثورات وفي مثل تلك الخطابات وبما إني لم اشهد ثورات كهذه من قبل , كدت اشكر مبارك لأنه عرفني على شعور جديد لم اكتشفه في نفسي من قبل , إلا أن صوت المتظاهـرين من قلب الميدان أعادني إلى صوابي بان إرادة الشعوب فوق كل إرادة .
عدت بنظري إلى أمي وحاولت أن ارجع إلى ما كنت أفكر به لكن دون جدوى فقد قطع حبل أفكاري خبر عاجل أخر عن بيان رئاسي سيبث قريبا فعاودني ذلك الشعور وسئلت نفسي هل سيظهر علينا الحاكم بأمره مرة أخرى بخطاب تافه دون المستوى , او انه أخيرا عرف مدى كره الشعب له ولنظامه . مرة الدقائق والتصريح يتلو التصريح والبيانات كالفقع في شباط وإذا بالبشرى تطل علينا على لسان عمر سليمان شاحب الوجه وكأنه خسر كل الطاولة "بلغة القمار " فقد كان قبل يوم أو اثنين يتصرف وكأنه الحاكم المطلق لمصر في الثلاثين سنة المقبلة وألان ها هو يظهر أمامنا مكسور الجناح لا حول له ولا قوة يقرأ بيانا كان يخشى ان يفكر به .
فرحت كثيرا وانتابني شعور جديد جدا ما كان لي ان اعرفه لولا بسالة الشعب المصري البطل وإصراره على دحر هذا الطاغية وكنسه إلى مزبلة التاريخ , لم تسعني الدنيا وصرخت في نفسي أين الشباب الذي كان يخرج مع كل فوز لفريق كرة قدم , متحصنين في سيارتهم معهم علم الفريق أو ألدوله الذي حصلوا عليه لا ادري من أين , وكأن عند كل واحد منهم مخزنا مليئا بالأعلام ينتقي ما يريد ومتى يريد , أين العلم المصري أين السيارات , ما من مجيب , ولكن هذا لن يفسد فرحتي فان عروبتي وامميتي قد عانقت السماء وقررت انه لن يفسد فرحتي شيء مهما كان .
كعادتي كل يوم جمعه كنت اجتمع مع بعض من أصدقائي في بيت احدنا كل مره , نجلس نتسامر ونتداول أطراف الحديث ولم أرى سببا لعدم الاجتماع بهم في هذا اليوم العظيم , حيث ساد حديث الثورة على كل حديث أخر فقص كل منا رأيه في هذا الخطاب وذلك البيان , وكنا نتشاطر شعورنا بالفرح الذي أسفر عن طرد , هذا المستبد من قاهرة المعز .
بقينا على هذا الحال حتى ساعات الليل المتأخرة وبعدها خلدت إلى نومي مع ذلك الشعور الجديد بانتظار غد جديد مليئا بالتفاؤل ونشوى النصر , إلا أن القدر شاء أن يفسد تلك الفرحة , حين استيقظت على صوت زوجتي تنادي بلغتها العربية الركيكة , إن أمك لا تريد أن تصحو من نومها . قمت من فراشي على عجل توجهت إلى سرير أمي وانضممت إلى مساعي زوجتي في إيقاظها , لكن ما من مجيب لم اعرف ماذا علي ان اعمل, حتى سمعت صوتا في داخلي يناديني بأن استدعي سيارة الإسعاف وهكذا كان , استدعينا سيارة الإسعاف التي أقلتها إلى المشفى وأنا معها , وعندها فكرت في نفسي , لماذا اليوم ؟ لماذا لم تستطيع أم رامز مشاطرتي فرحتي بانتصار ثورة مصر؟ كم كانت لتفرح لو عرفت ذلك , لكن القدر أقوى من المراد .
ها هي أمي ترقد في المشفى أيام عده توقفت أعضائها جميعا عن العمل, لكن مرة أخرى يأبى قلبها القوي عن التوقف فهذا القلب الذي كان شاهدا على تلك الأحداث من الصعب أن يستسلم حتى تحت ضغط باقي أعضاء الجسم ويستمر بالنبض وما زال ينبض وينبض وينبض .
علاء إيراني
|
Preview Target CNT Web Content Id |
|