جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
عمر هلسة - قلت لهم: عند مطلع قرية الخيمة سيروا على الإسفلت، هناك حيث تمر سكة الحديد.. أرضنا، تفصل قريتنا عن البحر بضعة كيلومترات... كنا نرقب البحر من هناك ونزرع القمح والشعير والبرتقال وآبار المياه السبعة كانت تروي الأرض وتروي البشر. ما قبل النكبة ''قبل عام 1948م كان الإنجليز مستعمرين ''البلاد'' كانوا يدخلون بين الحين والآخر بأسلحتهم وعساكرهم قريتنا (قرية التينة التابعة لقضاء الرمله) ، يجمعون أهلها في الساحة ويتركونهم ليلة أو ليلتين في العراء وهم يفتشون البيوت بحثاً عن السلاح!. أخذوا منا حتى السكاكين، ولا أذكر أنهم عثروا يوماً على بندقية أو مسدس ولكنهم كانوا يعيدون الكرّة دائماً! أذكر أن أمي ذات مرة خبأت ''شبرية'' بدوي في الطابون كان أن وضعها لدى أبي أمانة حتى لا يأخذونه إلى السجن بسببها!''... من هنا بدأت الحاجة ثرية محمد علي الشلعوط زوجة الحاج محمود الشلعوط تسرد لنا قصة مسيرة ستين عام من الشتات ما بين أكثر من ثمانية مخيمات وقصة أكثر من لجوء، في الذكرى الستين للنكبة تتذكر ما حصل لها ولشعبٍ بأكمله، شعب جرد حتى من السكين لضمان استحالة المقاومة.. بين الخليل وأريحا تستذكر كيف كان الرعب والهلع في قلوبهم لما سمعوا ما فعل اليهود من قتلٍ وتهجيرٍ وتنكيل في القرى المجاورة وكيف أتى دور قريتهم في صيف الـ48 وكيف أن المدرسة التي بدأ أهل القرية ببنائها لم تستقبل أبناءهم، تروي الحاجة ثرية القصة بأكملها: ''خرج من قرية التينة كل أهلها وخرجنا أنا وأبي وأمي وأخوتي علي ويوسف وفاطمة ومحمد الذي كان عمره 8 سنوات ولم يحتمل جسده الصغير ما حصل فتوفي في ذات العام! كنا نحمل حفنات الطحين والعدس، أغلقنا البيوت وخزّنا ''الغلال'' على أمل الرجوع القريب! سرنا على الأقدام قرابة الثلاثة كيلومترات لتل الصافي في قضاء الخليل ولم نستطع المبيت فيها لأن المدفعية الإسرائيلية قصفت القرية قبيل السحور، كان ذلك في رمضان، مجموعة من أهل قريتنا توجهوا لقرية الدوايمة في قضاء الخليل واختبئوا مع أهلها في مغارة كبيرة دخل عليها اليهود في نفس الليلة ورموهم بالرصاص حتى قتلوهم كلهم! لجأنا بعد تل الصافي لقرية عجور، قضينا هناك الصيف حتى أتت إحدى ليالي تشرين الأول والتي قصف بها اليهود عجور وزكريا وبيت جبريل وبيت نتيّف، هجّروا كل أهل الخليل عن قراهم وبقينا مختبئين في مغر الخليل المقفرة حتى مطلع عام 1949م، في كانون الثاني نصبت وكالة الغوث الآلاف من خيم الشتات في عقبة جبر والعوجة وعين السلطان في أريحا وفي نابلس وفي كافة أرجاء فلسطين، مكثت أنا وأهلي في مخيم العوجة في أريحا حتى أتى الصيف وصارت العقارب والحيات تخرج من جوف الأرض وتلدغ أهل المخيم فنقلوه إلى العرّوب في قضاء الخليل وبقينا به حتى شهر كانون الأول لم يكن أهل المخيم يملكون أغطيّةً كافيه لاتقاء ثلج الخليل فأتت وكالة الغوث بشاحناتها وأعادتنا لأريحا ولكن إلى مخيم عين السلطان هذه المرة... بقي أهلي في عين السلطان حتى عام 1967م أما أنا فغادرته في عام 1950م مع زوجي محمود أحمد الشلعوط إلى مخيم عقبة الجبر في أريحا.... من عقبة الجبر إلى الوحدات كان زوجي أبو نجيب يعمل ممرضاً عند طبيب خاص في القدس وكان معاشه 4 دنانير في الشهر بالكاد تسد رمقنا وأولادي الخمسة (نجيب وفريز وتحرير وعايده ومحمد) الذين أنجبتهم في المخيم. في مخيم عقبة الجبر استطعنا تحويل الخيمة إلى غرفة من الطين مساحتها لا تتجاوز الأربعة أمتار في أربعة أمتار وكانت الوكالة تبني المدارس وتقدم الوجبات للأطفال الهزيلين فقط، لم يكن هنالك عيادة أو مركز صحي في البداية ولم نكن نعرف ماذا حصل لأرضنا وقريتنا وكان المذياع الوحيد في المخيم ينقل لنا أخبار ما قبل النكسة وصدقناه وتأملنا الرجوع! في عام 1967 كان هنالك معسكر للجيش الأردني قرب المخيم في منطقة النبي موسى واستفقنا صباح الخامس من حزيران على تبادل النيران بين الجيش الأردني والجيش الإسرائيلي كانت الطيارات تقصف المعسكر والجيش الأردني يرد الضرب، هربنا يومها من المخيم والقصف يغتال اللاجئين في ظهورهم وسقط العديد من الشهداء ومن تبقى منا بعضهم ساروا باتجاه جسر الملك حسين والبعض الآخر- ونحن منهم - ساروا باتجاه جسر السويمة. خلال مسيرة القصف أضعت ابني البكر نجيب ولم أعثر عليه إلا بعد خمسة أيام في مخيم الوحدات حيث مكثنا فترة قبل أن نستقر في جبل النزهة قرب مخيم الحسين في عمان ...'' أمنيتي الأخيرة في جبل النزهة حيث تقطن اليوم مع أبنائها استطاعت وزوجها تحدي الظروف القاهرة وعلمت أبناءها حتى مرحلة الدكتوراة . تبث الحاجة ثرية أمنيتها الأخيرة بحسرةٍ تعتصر قلبها قائلة: '' نفسي أشوف بلدي حتى لو أنها خرابة خالية من البيوت، نفسي أشوفها وأبوس ترابها''!!! ''يا مين يحضر لي حفنة من تراب التينة! يا مين يأخذني للقدس حتى أصلي ركعتي الأخيرة!''. جريدة الراي الخميس 15 أيار 2008م 14/5/2008 11:51 م سامح الشلعوط