كان الخروج من المنزل للوهلة الأولى فسحة قصيرة ليومين أو ثلاثة لتنأى بنفسها عن هجمات عصابات "الهاغاناة" الصهيونية تليها عودة، لكن رحلة عائلة أبو زهرة التي هجرت من حيفا في أيار من العام 1948 امتدت لستين عاما.
قبل أيام من سقوط حيفا، أجمل مدن الساحل الفلسطيني ذلك العام الذي عرف بالنكبة، قررت العائلة المؤلفة من الأب والأم وثلاث بنات وأربعة أولاد ركوب البحر إلى مدينة عكا المجاروة، ريثما تهدأ الحال وتصمت أصوات المدافع وتصبح حيفا آمنة على أرواح سكانها العرب.
كان عمر حسنية إحدى بنات عائلة أبو زهرة الثلاث، التي استقر بها المقام الآن في مدينة نابلس ذلك العام، عشر سنوات، كانت تحسب أنها ستعود إلى ذلك البيت الذي شيدته العائلة في وسط المدينة، لكن بمجرد أن استقرت العائلة في عكا لأكثر من شهر أخـذ الإحساس باستحالة العودة يزداد عمقاً.
"تركنا بيتاً كبيراً من أربع غرف بكل ما يحوي من متاع"، قالت حسنية بينما أخذت تسرد حكاية العائلة التي رأت فيها حيفا لآخر مرة وتشتت من ذلك اليوم. "كنا نعتقد أننا سنخرج ليومين. لم نعتقد أن الغياب سيطول ستين عاما"، أضافت المرأة التي اعتلّت صحتها مع تقدم السن.
كانت عائلة أبو زهرة ميسورة الحال، وكان والد حسنية يدير دكاناً لبيع الخضار والفواكه في شارع الكبريهات، لكنه عندما خرج في رحلة اليومين من داره لم يحمل في جيبه سوى حفنة جنيهات.
"تركنا كل شي لحين العودة. حتى أوراق النفوس (شهادات الميلاد) لم نحملها" قالت حسنية، التي تشير إلى يقين العائلة بالعودة السريعة إلى حيفا، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.
وبعد أن تركت عائلة أبو زهرة رحى المعارك تدور في حيفا ومحيطها إلى عكا لم يطل بها المقام هناك، فسلكت درب البر إلى الشام شمالاً، وقرر ربها بعد فترة الانتقال إلى نابلس، حيث تزوجت حسنية وأصبحت لها عائلتها الخاصة.
وقالت المرأة، بينما كانت تحاول استعادة ذاكرتها الطفولية: "كلما كنا نبتعد عن حيفا بدت العودة اليها حلماً بعيد المنال".
تشتت في أصقاع الأرض
مثل كل اللاجئين الفلسطينيين الذين تشتتوا في أصقاع الأرض خسرت المرأة جزءاً من عائلتها في أتون المعارك، التي شنت ضد الفلسطينيين في مخيمات لبنان.
واستشهد كثير من اللاجئين في مذابح صبرا وشاتيلا وظل بعضهم مجهول المصير حتى اليوم. ومثل قرابة خمسة ملايين لاجئ تحمل أبو زهرة في ذاكرتها قصة النكبة المثقلة بتراجيديتها.
على حيطان غرفة الضيافة في منزلها في نابلس، علقت حسنية صور معظم أفراد عائلتها، التي تنتمي الى أجيال مختلفة من عمر النكبة، بعضهم توفي بشكل عرضي مثل زوجها وابنتها وبعضهم قتله الجيش الإسرائيلي مثل ابنها ناصر الذي خسرته خلال الانتفاضة الأولى.
كان عمها حسني مقاتلاً شرساً انخرط مع مجموعة من المقاتلين في الدفاع عن أحياء حيفا، وقبل سقوطها بأيام كان يجمع الأسلحة ويكدسها في منزل شقيقه كي يستخدمها المقاتلون ضد العصابات الصهيونية.
لم يعد من عائلة حسنية أبو زهرة إلى حيفا، منذ ذلك اليوم، أي من أفرادها الذين تشتتوا في مناطق مختلفة من الضفة الغربية وفي الخارج، وعندما ذهب مرة بعض أفراد العائلة الى حيفا للنزهة صدموا من هول ما رأوا.
"لم تكن حيفا التي سكناها وعرفناها. لم يكن هناك أي أثر لحجارة بيتنا، لكن لم يبن محله أي بناء.. رأينا حيفا مختلفة اختفت دورها القديمة وحلت محلها بنايات عالية"، قالت حسنية، التي بدا الحزن يجتاح كل جوارحها وهي جالسة على كرسي على مدخل بيتها المعتم في البلدة القديمة من نابلس، فيما ستملأ أضواء الألعاب النارية سماء إسرائيل، التي أقيمت على أنقاض دور الفلسطينيين الذين هجروا قسرا ديارهم سنة النكبة.
المصدر: المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات