الهجرة إلى القنطرة
ثم كانت النكبة في العام 1948، قرر والدي سعيد علي حسن حسنين أبو سعدة، وشقيقاه سليم وسليمان ربنا يتغمدهم برحمته، مغادرة يافا بشكل مؤقت، آخذين بنصيحة وجهتها المراكب المصرية بمكبرات الصوت أمام شاطئ يافا تدعو الأهالي إلى إخلاء المدينة، حتى يتسنى للجيوش العربية محاربة اليهود دون تعريض سكان يافا للأذى.
كنت قد طابقت السنة الأولى من عمري، وكنت أجلس على ظهر الشاحنة بجوار عمي سليمان الجريح وقد جلست جدتي أم سعيد (فاطمة مصطفى خلف) وعمتي يسرى ووالدتي (كوثر محمود الجمل) تجلسن فوق بعضا من الفراش الذي سمح والدي بأخذه معنا، فقد كان يعتقد بأننا لن نغيب طويلا عن البيت -زيارة لمصر لن تزيد عن أسابيع قليلة- وقد خرجنا تحت حماية قوة من الجيش البريطاني رافقتنا حتى قرب غزة.
بتنا في غزة ليلة واحدة ثم تابعنا المسير متوجهين إلى مصر حيث استقبلنا في العريش ضابطا مصريا يتولى قيادة المتطوعين المصريين للجهاد في فلسطين، وجلهم من رجال حركة الإخوان المسلمين.
من فوره أمر القائد أحمد عبد العزيز بإخلاء مبنى محطة قطارات العريش وتسليمها للعائلات الفلسطينية الوافدة، أخبرني والدي بأن رجالا من الفدائيين المصريين كانوا يحضروا قدور الطعام إلى المبنى فيتركوها قرب المدخل وينصرفوا، ذلك لوجبتي الغداء والعشاء.
في العريش أهدى والدي مسدسه الشخصي للقائد أحمد عبد العزيز، إذ أنها آخر نقطة يسمح فيها بحمل السلاح، وكان المسدس عزيزا عليه، فقد أهداه إياه ضابطا ألمانيا وفد إلى يافا لتدريب المجاهدين الفلسطينيين، وقد مكث في يافا شهورا.
انطلقت الشاحنة باتجاه قناة السويس، حتى إذا ما وصلتها أوقفتها قوة من الجيش المصري وحولتها لدخول معسكر اعتقال بريطاني مهجور منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
فكانت بداية الشعور بالغربة، الاستقبال في البدء كان طيبا، والإقامة كانت في خيام أعدت لإيواء العائلات والأفراد الوافدين من فلسطين.
كان الطعام توفره القوة المصرية التي أنيط بقيادتها إلى اللواء المواوي باشا.
نقل عمي سليمان إلى المستشفى العسكري ببور سعيد، ومن ثم بدأ والدي بزيارته والعناية به بشكل مطرد.
الحاج عبد القادر أبو سعدة
ذات يوم حضر بعض الشباب المصريين إلى العنبر الذي وضع فيه عمي سليمان، المفاجأة أن سؤالهم كان عن سليمان علي أبو سعدة، فأشار الممرض المناوب إلى حيث كان عمي يتمدد على سريره، نظر إليه الشباب باستهجان وسألوه عن اسمه، فأجابهم باسمه. فجأة انقضوا عليه وهم يصرخون: قتلت أخانا وتنتحل شخصيته يا ابن ال...، هنا استوقفهم شاويش العنبر قائلا: أنتم تريدان سليمان أبو سعدة المصري؟ أجابوا بالإيجاب متسائلين ومن هذا؟ أجابهم بأن أخاهم يقيم في عنبر رقم كذا. اعتذر الشباب بخجل وانطلقوا.
في اليوم التالي قدم الشباب أنفسهم مصطحبين شيخا وقورا طرح عليه السلام بحنان وقدم نفسه قائلا: الحاج عبد القادر أبو سعدة، وجلس بعدما قدم له الزيارة التي كانت عبارة عن سلة كبيرة مفعمة بأشكال الطعام والفاكهة.
بدأ الرجل بسؤاله عن اسمه واسم والده وجده، ثم أخبره بخبر الأشقاء الثلاثة وشقيقتهم زينب، فقام الشيخ واقفا وانحنى على عمي يقبله بحنان قائلا: جدك (حسن) هذا يكون شقيقي. سوف نتولى أموركم وننقلك إلى مستشفى آخر .
غادره العم وأبناءه (المصريين) على وعد بلقاء، ومن ثم حضر والدي لزيارته فسرد عليه ما حصل معه. صادق والدي على رواية العم العجوز وأبلغه بأن والده قبل وفاته أبلغه بقصته، وطلب منه أن يبحث عن أهلهم في مصر. وأن زحمة الحياة قد شغلته عن ذلك الواجب.
وحيث أننا لم نبحث عنهم ونحن في الرخاء في بلدنا، فإن الموقف الآن يجعلنا لا نرضى بالدنية فنكون محلا لعطفهم وتراحمهم.
غادر والدي المستشفى عائدا إلى معسكر القنطرة شرق، وبعد قليل تحامل عمي سليمان على نفسه وانسل من المستشفى تاركا الشظايا منغرسة في لحم فخذه، وعاد إلى معسكر القنطرة هو الآخر في نفس اليوم.
العودة إلى قطاع غزة
مكثنا في معسكر القنطرة قرابة العامين، فشقيقتي التي تصغرني (نجاح) قد وُلِدَت هناك سنة 1950
ومن ثم أعيد الجميع إلى قطاع غزة، وبدأت مخيمات اللجوء في الاكتظاظ، واستحدثت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين عددا من المخيمات لتخفيف الضغط عن المخيمات التي بدأت بها في بداية الهجرة. ومن ثم كان استقرارنا وعدد من عائلات أبو سعدة في معسكر البريج.
أذكر أننا كنا نقيم في بلوك رقم 7، وعائلة عمي أبو درويش (مصطفى حسنين حسن أبو سعدة) وعائلة عمي أبو محمد (حسنين "محمد رمضان" حسنين حسن أبو سعده) ومعهم والده محمد رمضان وشقيقه (أبو خطاب) عمر وشقيقتهم خديجة (زوجة عمي سليان، وعائلة العم أبو رشيد (محمود حسنين حسن أبو سعدة)، و ابن العم -ابن خالتي أيضا- فتحي حسنين حسن أبو سعدة كانت إقامتهم في البداية في بلوك رقم 1 قبل أن ينتقل البعض للسكن في مدينة غزة.
ومازلنا لاجئين.
ربنا يرحم موتانا وموتى المسلمين أجمعين.
” محمد زهير“ سعيد علي حسن أبو سعدة