نمر كلّم وحَمَر.. قصَّةُ شهيدٍ لم يُخذِّلهُ كلبُهُ
!
محمود كلّم
عند الفجر، حين كانت السماء ما تزال موشّحةً بالسواد، توضّأ نمر كلّم(أبو أحمد)، صلّى لربّه صلاة الفجر، ثم انطلق مع رفيقه الصامت، كلبه "حَمَر"، صوب العزيّة. لم يكن يدري أن خطواته تلك ستُسجَّل في ذاكرة التراب، وأن الفجر الذي أذّن للصلاة، سيأذن له بالرحيل.
من أعلى تلال درب البيّاضة، نظر إلى قريته الحبيبة، العزيّة، نظرةً أخيرة، كأنّه يودّعها بعينين أرهقتهما الأيام والخذلان. كان نمر كلّم يدرك أن الرصاص لا يفرّق بين طفلٍ وعجوز، وأنه يوماً ما سيكون هو المستهدف، لكنه لم يكن يظن أن الرحيل سيكون بتلك القسوة، بتلك الوحشية التي لا ترحم حتى الجرحى.
حين وقعت الغارة الأولى، اخترقت شظية غادرة فخذه، لكنه لم يتراجع. زحف بقلبٍ أثقلته الجراح نحو الصغيرة "سحر"، ابنة أخيه دياب، ليحاول انتشالها من أنياب الموت، لكن الغارة الثانية كانت أكثر قسوةً؛ شظية استقرّت في رأسه، كأنها ختمت قدره بدمه. لم يسقط شهيداً على الفور، بل ظلّ يصارع من أجل البقاء، عينه على السماء، وقلبه مع الأرض التي أحبّها حتى الموت.
حملوه إلى سيارة الإسعاف، وبينما كانت العجلات تدور بين طرقات الوطن المكلوم، كانت روحه تتأرجح بين الرحيل والبقاء.
وعند مفرق مخيم الرشيدية، كان الفراق.
توقَّفَ القلبُ الذي لم يَخشَ يوماً، وسكنت الأنفاس التي حملت همّ القضية، وسقط الرأس الذي لم ينحنِ، لكنه لم يكن وحده.
استُشهد نمر كلّم (أبو أحمد) وحنينه إلى أرض عشيرته، عرب السّمنيّة في جالين. كان قلبه معلقاً هناك، بين الحقول والبيوت الطينية، بين الزيتون والصبّار، بين ذاكرة الطفولة وحلم العودة. كم كان يشتاق إلى رائحة التراب في صباحات الشتاء، وإلى ثمر التين يتدلى من الأغصان كحباتٍ من ذهب، وإلى زيتون بلاده حين يُعصر في معاصر فلسطين، وإلى كروم العنب التي تمتد كجدائل خضراء تراقصها نسائم المساء. كان يحلم أن يعود يوماً ليقطف عنقوداً بيديه، لكن الموت سبقه قبل أن يتحقق الحلم.
استُشهد نمر، وترك خلفه خمسة أطفال بعمر الورد، يحملون ملامحه، ويتوارثون حلمه الذي لم يتحقق. كانوا صغاراً لا يدركون معنى الفقد، لكن الزمن كفيل بأن يخبرهم أن أباهم لم يمت، بل صار ذكرى خالدة تسكن الأرض التي عشقها.
كان هناك من يئنّ بصوتٍ لم يكن بشرياً، بل كان وفاءً يتجسّد في هيئة كلب. كان "حَمَر" يحدّق بجسد نمر المُسجّى، يئنّ وكأنه يرفض تصديق أن اليد التي كانت تلامس رأسه قد خمدت إلى الأبد.
وفي الجنازة، كان المشهد أشدّ إيلاماً. سار "حَمَر" بمحاذاة النعش، وكأنّه يحرس صاحبه في رحلته الأخيرة.
لم يبتعد، لم يتراجع، بل ظلّ هناك حتى وارى الثرى رفيقه الوحيد. وعندما حلّ الليل، علت أصوات النحيب، لكن أقساها كان نحيب "حَمَر".
ليلةً بعد ليلة، كان صوته يدوّي في أرجاء قرية الحنيّة، كأنّه ينادي من رحل، يطلبه، ينتظر عودته، لكنه لم يعد.
أربعين يوماً ظلّ يعوي، حتى هدّه الحزن، فسقط بجوار القبر، كأنّه قرر أن يكون مخلصاً حتى في الموت.
وهكذا، ظلَّ "حَمَر" رمزاً للوفاء الذي لا يخونه الموت، حارساً لذكرى صاحبه حتى آخر أنفاسه. لم يفارقه في حياته، ولم يتركه حتى بعد رحيله، وكأنّ روحيهما تعاهدتا على البقاء معاً. كان نحيب "حَمَر" أنشودة حزنٍ في ليل قرية الحنيّة، حتى صمت قلبه إلى الأبد، ليجتمع الوفاء بصاحبه تحت تراب الوطن، حيث لا خذلان ولا فراق بعد اليوم.
أيُّها الشهيد نمر، هل تسمعُني من تحتِ الترابِ؟
رحلتَ والسِّلاحُ في يدك، واليوم صار المُقاومُ يُطاردُ بأوامر أبناء جلدته! كنتَ تحلمُ بوطنٍ حُرٍّ، فصار الوطنُ سجناً تحرُسُهُ أيادٍ فلسطينيَّة بأوامر المُحتلِّ.
دمُكَ الذي سُفك على تراب العزيَّة لم يُزهر حريَّةً، بل ذبُلت الثورة بعد أن سقاها الخذلانُ.
رحلت شهيداً، وبقينا نحملُ الهزيمة على أكتافنا.
صار المُقاومُ مطلوباً لا من العدوّ فقط، بل من الذين تقاسموا معهُ الخُبزَ والخندقَ. يُطاردون المُقاومةَ باسم "القانون"، ويذبحونها بسكِّين "التنسيق الأمني المقدّس".
دمُك أصبح حبراً في كُتب النِّسيان، وبُندقيَّتُك تُركت لتصدأَ.
أيُّها الشهيد نمر، لو كنتَ بيننا اليوم، لرُبَّما وجدت الأرض قد تحوَّلت إلى قيدٍ ثقيلٍ، والمُقاومةَ أصبحت خيانةً، والدِّماءَ جفَّت على تُرابنا، فلا نجدُ سوى الصَّمت يقتُلُنا يوماً بعد يومٍ.