
عندما يكون قدرك أن تولد فلسطينيًا، منذ الولادة عليك أن تقاوم لتبقى حيًا، لم أبلغ من العمر سوى ساعات قليلة عندما لفتني أمي المنهكة من أثر الولادة، بقطعة قماش أبيض وحملتني تحت بنادق العسكر الانجليزي إلى مقبرة المدينة، حيث كان يتم تجميع النساء أثناء تفتيش الانجليز للبيوت بحثًا عن الثوار والبنادق، إثر اندلاع ثورة 1936م.
عندما فتحت عيني لأول مرة خارج رحم أمي كانت بنادق المُحتل وهيئتهم الغريبة أول ما شاهدته، وعندما كبرت قليلًا ذهبت مع أمي إلى يافا لزيارة ابنة عمي المريضة في المشفى هناك، وأثناء سيرنا من المشفى نحو محطة الحافلات، لم أرى نفسي سوى على الأرض بعد أن دهسني صبي يهودي، توجه بدراجته عمدٌا نحوي، عندما نهضت عن الأرض نفضت ملابسي من غبار الطريق، وتيقنت أنها البداية فقط، وأن هناك متسع من الوقت أمامنا لنواجه الأكبر والأصعب.
كان والدي مزارعًا يقضي وقته في الأرض وتعمير الكرومات في جبال الخليل المنعشة، بالصيف كنا نذهب لنقيم في كرومنا شهورًا طويلة، وكانت (خلة النصراني) بالقرب من البصة هي المكان الأحب لوالدي، وهناك كنا نقيم ليالينا في نفس المكان الذي عسكر فيه ابراهيم باشا عام 1834م من أجل ملاحقة الثوار في المدينة الذين يحصلون على امداداتهم من دورا وبلدات الغرب ، حيث كانت الخليل حينها مركزًا للقتال احتمى فيها ثوار نابلس والشمال بقيادة عبد الرحمن عمرو، وكنت أرى الرجل النصراني يدور على العائلات طالبًا يد عروس منهم.
أما بقية العام كنا نقيم في منزلنا في عين القرنة/ حارة الشيخ، كنت طفلة أمشي في حارات الخليل من بيتي لمنزل الشيخة (زُلفة مسودي) في حارة العقابة، أعلق في صدري لوحًا من التنك كي أكتب عليه حروف الأبجدية العربية، وفي نهاية الأسبوع يعطيني والدي 5 مليم للشيخة لقاء تعليمها، في ذهابي وعودتي كانت الخليل تغلي وكنت أرى حشود المتظاهرين الغاضبين تتجول في الأزقة ضد الدعم البريطاني للصهيونية.
قامت النكبة عام 1948م وكان دوي الرصاص يسمع من كل مكان، والثوار يتجمعون في المدينة ويذهبون لنواحي عصيون والقدس من أجل القتال، توقفت الحرب لكني عشت تفاصيلها المؤلمة لاحقًا، بالرغم من أني خبرت الفقدان من قصص عمي العائد من حرب السفربرلك، خاصة عندما فقدت العائلة الأمل في عودته، ثم عاد ذات يوم في حالة يرثى لها، حتى أن أولاده ركضوا منه فزعًا عندما رأوه يطرق باب بيتهم بسبب هيئته الرثة بعدما قاسى الويل في الحرب العالمية الأولى.
خبرت شيء شبيه بذلك عندما استشهد أخ زوجي في حوسان عام 1956م، كانت والدته تطبخ العنب في الكروم، عندما حضرت سيارة عسكرية فيها 5 جثث، وضعوهم في بابور عبد النبي النتشة ودعوا الناس كي يتعرفوا عليهم، كانت الرصاصة قد اخترقت رأسه وشوه الدم ملامحه، عندما رأته أمه لم تبكي أو تصرخ فقط شهقت وكتمت قهرها، في نفس اللحظة انزاح فمها جهة اليمين وتشنجت ملامحها، يا ليتها صرخت أو بكت…..
في هذا اللقاء الثري والممتع في تجربتها الفريدة في الخياطة والطب الشعبي، وذاكرتها الخصبة، كل الشجن ظهر في أهزوجة رددتها مثلما كانت تسمعها من أمها وجدتها بصوت حنون ودافيء مملوء بالشجن، وحمل مآسي الأم الفلسطينية بالفقدان:
يا عالم بحالي
لن جاني الغالي
لربط الجمل ع كرم الدوالي
لن جاني عزي
يا جمل جمال
لن جاني عزي
ع كوم الرز
لأربطك يا جمل
ع كوم الرز
جانب قصير ومختصر من اللقاء الثري والممتع الذي أجراه فريق التأريخ الشفوي التابع لنادي الندوة الثقافي يوم أمس الثلاثاء 11/2/2025 مع السيدة المذُهلة (سميحة عبد الجبار النتشة) مواليد مدينة الخليل عام 1936م، الشكر موصول لها ولعائلتها عى حسن الضيافة والاستقبال.
المصدر: النادي الندوة الثقافي
12/02/2025
