بنت وأعمى بدهم يحرروا البلد !!

عام 1968م وقفت السيدة كريمة الفلاح وجهًا لوجه أمام قاضي التحقيق في محكمة الاحتلال الاسرائيلي، بتهمة العمل الوطني والانتماء إلى جبهة التحرير العربية، قبض عليها وعلى كل رفاقها المؤسسين للحركة الوطنية في الخليل، كان الاحتلال حينها في عامه الأول داخل المدينة لكن حلمهم بالتحرر وبفلسطين كان أكبر بكثير، كان الحركة الوطنية في تلك الفترة تعنى بعدم تسريب العقارات للاحتلال وتدعوا لعدم انصهار كينونة فلسطين في أي كيانات سياسية أخرى، لمدة شهرين كان يتم إخراجها من بيتها صباحًا إلى الزنزانة في القلعة ثم يأتي أحد الأشخاص بواسطة رئيس البلدية لأخذها إلى بيته عند الساعة 11:00 مساءً لتعود إلى نفس الزنزانة صباحًا، كانت الحركة الوطنية في المدينة تضم كل أبناء هذه البلاد المتعبين، معها تم توقيف شخص ضرير "أعمى" من رفاقها في النضال، لدرجة أن أحد وجهاء المدينة أستهزئ منهم قائلًا أثناء المحاكمة (بنت وأعمى بدهم يحرروا البلد)!
كان والدها في القاهرة يعمل تاجرًا كحال أبيه وجده، كما الكثيرين من أبناء مدينة الخليل التي كانت مصر وجهة أساسية في تجارتهم وأعمالهم، ولدت هناك عام 1936م في بيت كبير وجميل بالقرب من نهر النيل، وحينما اشتعلت نار الثورة الفلسطينية الكبرى، أخذ أخيها الكبير توفيق بعض المال وعاد إلى فلسطين من أجل المشاركة في الثورة، لم تبعدهم القاهرة عن فلسطين وقضيتها، وحينها قرر والدها العودة إلى البلاد، تركوا حياة الترف وانتقلوا إلى السكن في منطقة بين بيت صفافا والبقعة في القدس الغربية عام 1940م.
كان أخيها توفيق حينها أحد أهم رجال الثورة الفلسطينية فقامت القوات البريطانية بتفجير بيتهم في بيت صفافا وسجنته في صرفند عام 1942م وعندما ذهب لزيارته للمرة الأولى رمت له بكيس ملئ بالملاليم (نقود جمعتها من مصروفها الخاص) فأدخلتها القوات البريطانية للتحقيق وهي لم تبلغ 6 سنوات من عمرها بعد، سكنت مع عائلتها في حي البقعة في القدس الغربية وتعلمت في مدرسة الطوري دراستها الابتدائية، ونهاية عام 1947م اشتعلت المواجهات بين قوات الجهاد المقدس والعصابات الصهيونية، كانت والدتها تحضر الطعام للثوار مع عائلات أخرى في الحي.
أصبحت الحياة في القدس في تلك الفترة صعبة ودموية، وعندما استشهد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل أسر أخوتها الثلاثة بواسطة العصابات الصهيونية التي بدأت بمهاجمة بيتها وبيوت سكان القدس الغربية(البقعة والقطمون والطالبية...الخ) ، تركوا البقعة في نهاية شهر نيسان، تقول: (كنا نمشي ع طريق القدس الخليل وسنابل القمح الأخصر واصل لشباك السيارة) كان هذا آخر ربيع لها في القدس، حملت دميتها معها وغادرت، دميتها التي تحتفظ بها حتى اليوم مع مجموعة من الصور التي تؤكد أن البيت الذي استولى عليه الصهاينة في القدس كان لهم، ولم يغادروه حتى اللحظة.
وصلوا الخليل وسكنوا في بيت العائلة في حارة الشيخ، لم تكن والدتها تعرف مصير أولادها الثلاثة في يد العصابات الصهيونية، لذلك أقسمت على أن لا تطهوا الطعام حتى تعرف إن كان أولادهم أحياء أو أموات، تبرع والدها بمبلغ 50 دينار -مبلغ ضخم في تلك الفترة- للاجئين إبان حرب النكبة، في هذا البيت بدأت السيدة كريمة الفلاح تتعلم دروس الوطنية والانتماء للوطن، درست الثانوية في ثانوية الخليل للبنات هذه المدرسة التي كانت تأتيها الطالبات من الخليل وبيت لحم وبيت جالا، هذه التعددية أكسبتهم مفاهيم كبيرة عن معنى الوطن بكل أطيافه، وانتمت إلى جبهة التحرير العربية من أجل فلسطين، كان الفعل النضالي في تلك الأيام ذو قيمة كبيرة، عملت في التدريس لمدة 35 عام خرجت فيها أجيالًا تدين لها بالكثير، كان لها حضور وطني واجتماعي وتطوعي وتعليمي وثقافي في المدينة لا يزال أثره حتى اليوم.
هذا جزء بسيط من حياة المناضلة "كريمة الفلاح" مواليد عام 1936م التي استقبلتنا نحن فريق التأريخ الشفوي التابع لنادي الندوة الثقافي يوم أمس في بيتها برفقة ابنتها وأحفادها، الشكر لهم على حسن الضيافة والاستقبال، ولها دوام الصحة والعافية.
المصدر: نادي الندوة الثقافي
13/02/2023


