
كان والدي يركب الباخرة من يافا باتجاه قبرص من أجل شراء الجلود والفراء، كان قديمًا يعتمد على فراء الخراف التي يستهلكها أهل القدس والخليل، من أجل صناعة الأحذية الشتوية (الأراشيل) والمعاطف والعُبي المبطنة بالفراء لتحمي الناس من برد الجبال القارص، ولكن بعد الكساد الكبير الذي أصاب البلاد في سنوات الثورة الفلسطينية الكبرى وآثار الحرب العالمية الثانية، اتجه إلى قبرص من أجل استيراد الفراء والجلود لتعويض النقص في المدن الفلسطينية في فصل الشتاء، وفي تلك الفترة كنا نسكن في مدينة القدس لقربها من يافا نقطة تجارته، ومن الخليل مسقط رأسه حيث كان في الصيف يشتري العنب من جبال الخليل والقدس ويبيعها في القدس القديمة.
في القدس عرفت معنى فلسطين الحاضنة الكبيرة، كنا نذهب ونزور في مواسم البلاد الكبيرة، أتذكر خيمتنا في النبي روبين، وفي النبي موسى، وفي النبي شعيب أقصى الشمال وفي موسم نيس البنات بداية شهر نيسان في الخليل مسقط رأس والدي، كانت فلسطين في تلك الفترة نابضة بالحياة والتراث والثقافة، وكان بحر حيفا ويافا في أيام العطل سلوانا الوحيد والأثير.
في منتصف الأربعينيات انتقلنا إلى مدينة الخليل، وهناك بدأ كل شيء يتغير، عرفت أول فاجعة في حياتي حينما رأيت جثة أخي فضل محمولة على الأكتاف بعد اشتباك عنيف في منطقة عصيون مع العصابات الصهيونية، كنت مع أمي نقف على سطح المنزل عندما رأينا جمع كبير من الناس يحملون جسدًا ممزقًا بين أيديهم، قالت أمي: الله يكون بعون أمه، ولكن الحشد كان يقترب من بيتنا، اقترب منها والدي وقال لها: الله حط أمانة عندك ورجع أخدها، ما تعيطي ولا تصرخي، وفي تلك اللحظة أمي صمتت، صمتت طويلًا وبكت ليال أطول.
كانت البلاد بعد النكبة تعاني من كساد كبير، تقدم لي الكثير من العرسان، لكن والدي وافق على المزارع منهم حيث قال: (هدول مزارعين لو اكلت عندهم سبلة قمح بتشبع) وعندها عرفت الأرض وقيمتها وعطاؤها الذي لا ينضب، وبدأت فصلًا جديدًا من حياتي لم يفارقني حتى اليوم.
جانب قصير من اللقاء الثري مع السيدة عزيزة عبد العزيز أبو رميلة، مواليد مدينة الخليل عام 1930، الشكر موصول لها ولعائلتها على حسن الضيافة والاستقبال.
نادي الندوة الثقافي
11/8/2025
