من ذاكرة الحاجة شمة عمايري: حفنة تراب من الجاعونة

فدوى برية
هوية – دمشق
آب/ أغسطس 2025
في إحدى جلسات مشروع هوية بدمشق، جلست الحاجة شمة أحمد سعيد عمايري (أم زهير) تستعيد ماضيها كما لو أنها ما زالت تمشي في طرقات قريتها الجاعونة قضاء صفد. بعينين يملؤهما الحنين أخذتنا في جولة بين البيوت والحارات، لتروي قصة بلدة سكنتها الذاكرة أكثر مما سمحت لها الغربة.
تبدأ الحكاية من العائلة؛ عائلة العمايري التي كانت من كبرى عائلات الجاعونة ويصفهم أهل القرية بالكرم والرجولة. وكان للعائلة حارة تمتد من أول البلدة إلى آخرها. في تلك الحارة نشأت شمة، في بيت من الحجر الأزرق يطل ببرنداته على الطريق، إلى جواره المضافة التي لا تخلو من جرن القهوة ومحماسة النار وأباريقها الصفراء المصطفة حول كانون الضيوف.
تصف منزلهم كما لو أنها ما زالت تتجول فيه: في الطابق الأرضي فرن وأماكن للآجار كانت تؤجر لضباط عرب متطوعين في الجيش الإنكليزي، وصوامع للمونة مليئة بالعدس والحمص والبرغل، وخوابٍ فخارية تحفظ زيت الزيتون. في الحوش كانت الأغنام والخيول والبقر، وفي المطبخ موقدة لخبز الصاج وفرن أرضه من حصى. لم تكن الأم تكتفي بتأمين البيت فقط، بل كانت تخض اللبن وتصنع الزبدة لتوزعها على العائلات التي لا تملك بقرة.
أما البلدة نفسها، فكانت أشبه بحديقة واسعة. تكسوها كروم العنب وأشجار التين والزيتون، وتنتشر فيها الحقول من القمح والشعير إلى الصبار والبرتقال. مياهها تتدفق من نوافير وعيون طبيعية، أشهرها نوفرة السيد ونوفرة اللحام ونبع أبو خليل القادم من جبل كنعان. وفي كل موسم، كانت معاصر الزيتون الثلاث – للعمايري، ولتميم، ولعلي جلبوط – تضج بالحياة.
الحياة الاجتماعية في الجاعونة لا تقل ثراءً؛ الأعراس لا تكتمل إلا بـ"شوال رز ودبيحة"، والأسواق كانت عامرة بكل ما يلزم، وإن كان أهلها يفضلون شراء الملابس من صفد حيث التنوع أكبر. في التعليم كان للأولاد مدرسة ابتدائية من الحجر وسقفها القرميد، يكملون بعدها دراستهم في صفد، حيث أسماء أساتذة مثل الأستاذ حسن والشيخ رجا الكوسا ما زالت راسخة في ذهنها.
تتذكر الحاجة شمة علاقتهم بجيرانهم اليهود؛ شارع يفصل بين الحارتين، بيوت اليهود مرصوفة بالحجر الأزرق وطرقهم معبدة بتبرعات من الخارج، فيما شوارع الفلسطينيين تبقى بالحجر الأبيض. من بينهم جارتهم "روخل" التي اعتادت أن تخبز في فرن بيتهم، لكنها لم تخف نواياها وهي تقول: "شخادة، إنتوا برا.. فلسطين إلنا."
ثم جاء عام 1948، حين انقلبت الحياة رأساً على عقب. بدأت الهجمات من المستوطنات القريبة، فاضطرت العائلات إلى النزوح. خرجت شمة مع أهلها من الجاعونة إلى فرعم، ومنها إلى علما فبنت جبيل وعيترون في لبنان، قبل أن يصل بهم الحال إلى دمشق. تتذكر كيف باع والدها الغنم كي لا يُسرق، وكيف حملت هي حفنة من تراب بيتها وخبأتها في حجابها وهي تغادر: "كل الدهب ما بيسوى حفنة تراب من فلسطين."
رغم عقود الغربة، لا تزال شمة تستحضر أدق تفاصيل بيتها وحارة العمايري ومضافة والدها وصورة القهوة تفور على كانون الضيوف. تبتسم وهي تقول: "إن شاء الله ليلة واحدة فقط أرجع وأموت على تراب فلسطين."
وللأحفاد أوصت وصية تختصر حياتها كلها:
"لو على العكازة.. ارجعوا لفلسطين وطنكم. وين ما كنا وين ما رحنا، نحن فلسطينية."