أربع محطات في طريق اللجوء.. حكاية أمّ من طيرة حيفا
الحاجة صالحة عباس (أم طارق)
دمشق – 6/11/2025
هوية – فدوى برية
استقبلتنا الحاجة صالحة أسعد عبّاس (أم طارق)، من مواليد طيـرة حيفا عام 1940، في منزلها بمخيم اليرموك، ترافقها زوجة ابنها وحفيدها وعدد من أفراد عائلتها، بترحابٍ وابتسامةٍ لا تفارقها، كما اعتادت أن تلقي السلام على كل من يمرّ أمام بيتها.
منذ اللحظة الأولى، بدت ذاكرتها مشتعلة بالحكايات القديمة، تعود بها إلى طفولتها في الطيرة، حيث الحياة البسيطة المليئة بالألفة والعمل والفرح. كانت تروي ما سمعته وعرفته من والديها وأهل قريتها: عن الحقول، وأيام القطاف، وسوق "الحسبة" حيث كانت سيارات الخضار تصطفّ في انتظار بيع محاصيل البلدة، وعن والدها الذي كان يحمّل الخضار إلى حيفا ويسأل أبناءه عمّا يرغبون أن يحضر لهم، وعن والدتها التي تطبخ "للحواشات" العاملين في جمع المزروعات.
تستعيد الحاجة أيضاً ملامح بيتهم القديم، وشجرة "الدومة" التي كانت على بابه، يتفيأ تحتها الشيوخ ليلة كل خميس للصلاة والدعاء، فيما تختزن في ذاكرتها قصص العلاج الشعبي والنذور التي كانت ترافق المرضى إلى تلك الشجرة المباركة.
لكن دفء الذاكرة سرعان ما يمتزج بوجع الرحيل، يوم دوّى الرصاص وعمّ الخوف في الطيرة. لم يكن أمام الأهالي سوى الفرار، بعضهم حفاة يسلكون بين سنابل الذرة والعشب، بينما تفرّقت العائلات عن بعضها، ومات بعض المسنّين على الطريق. لجؤوا أولاً إلى جنين، ثم إلى نابلس، حيث قضوا أيامهم الأولى في العراء تحت أشجار الزيتون، بلا طعام ولا ماء. هناك أدركت الطفلة صالحة معنى الفقد، حين سمعت النساء يرددن أهازيج الوداع على أبواب الباصات التي حملتهن قسراً بعيداً عن بلادهن.
تتابع رحلة النزوح التي قادتها وأسرتها إلى الأردن ثم إلى سوريا، حيث أقاموا بدايةً في حي الأليانس بدمشق لمدة عشر سنوات، قبل أن تنتقل إلى مخيم اليرموك. هناك بنت مع زوجها بيتهم في شارع العروبة، من أحد عشر شقة، قبل أن يتهدم بفعل الحرب وتضيع معه الوثائق والذكريات، ويبقى الحلم الأكبر قائماً: العودة إلى الطيرة.
رغم الغربة التي امتدت عقوداً، لا تزال الحاجة صالحة ترى أن ساعة واحدة في فلسطين خير من شهر في المنفى، وتختم حديثها بابتسامةٍ حزينةٍ وعبارةٍ تختصر كلّ ما عانته:
“الرجعة للطيرة ما إلها غِنى، ساعة بفلسطين أحسن من الدنيا كلّها.
