بين حيفا والنيرب… قصّة تهجير لا تُنسى
حلب – الاثنين 30/11/2025
هويّة – أ. زياد غضبان
مساء الاثنين زار وفد مؤسسة هويّة الحاج محمد حسين عابدي، من مواليد عام 1939 في مدينة حيفا، والمقيم حاليًا في مخيم النيرب خلف مسجد الشهداء.
عند دخولنا منزله لفت نظرنا جسده النحيل وجرّة الأوكسجين المرافقة له، كأنها تختصر مرارة اللجوء في مشهد واحد. استقبلتنا زوجته وابنه بطيبةٍ وابتسامةٍ دافئة، فيما كانت أصوات أخبار البلاد تنبعث في الخلفية وتُضفي على المكان طابعًا وطنيًا خالصًا.
عاش الحاج محمد صامدًا في مخيمه طوال سنوات الحرب. بدأ اللقاء بالتعريف بمؤسسة هوية، وخلال الحديث تناول كأسًا يحتفظ به كتذكار من بلاده، وقال وهو يستعيد ذكرياته:
"ولدتُ في مدينة حيفا عام 1939، وكان والدي يعمل مزارعًا يزرع البقدونس والفجل وغيرها من الخضروات."
يصف الحاج حيفا قبل النكبة بأنها مدينة مكتظة، يغلب عليها الوجود اليهودي، بمنازل هندسية جميلة وشوارع منظمة ومضاءة بالكهرباء. كان منزل عائلته يقع أمام كنيس لليهود في شارع "اسمير" تحت منطقة الهدار. وكان يرافق والده إلى الحقل ويجلس تحت شجرة الجُمّيز، ويتذكر كذلك بيتًا عربيًا قريبًا يُعرف ببيت العبيد، مساحته 10×10 أمتار يضم ثلاثة منازل، وفي خارجه محل يبيع فيه والده المواد الغذائية وزيت الزيتون.
وكانوا يبيعون الخضروات التي يزرعونها في منطقة تُسمّى "الحصبة"، أشبه بسوق الهال اليوم. كما بقيت في ذاكرته "مسمكة بيت عابدي" حيث كانوا يصطادون السردين والكافور والأخطبوط من بحر حيفا، إذ يمكن رؤية البحر من المرتفعات القريبة من منازلهم.
أما العلاقة بين سكان المدينة من ديانات مختلفة فكانت قائمة على أن يعيش كلٌّ في حيّه دون احتكاك كبير.
ويستذكر الحاج تطور التعليم والبنية التحتية في حيفا، ويذكر أن أخته "فيروز" تعلمت في مدارسها ثلاث لغات. وكانت مضافة البلدة مكانًا يرافق فيه الحاج والده ليرى كرم المختار الذي يضع موائد الطعام أمام المضافة للفقراء والمارّة. كما عبّر عن فخره باقتصاد فلسطين وعملتها: الشلن، القرش، التعريفة، العشرة قروش، والليرة الفلسطينية.
وفي حديثه عن العادات والتقاليد، قال إن أعراس فلسطين كانت قريبة جدًا من أعراس بلاد الشام من حيث الغناء واللباس والدبكة والتعليلة. وبفرح واضح غنّى من ذاكرته:
"علادة العونا… علادة العونا… ويا هوى الغربة نسّم علينا."
كما تحدّث عن أجواء رمضان: المسحّر الذي يطوف على الأبواب، وسهرات العيد التي تجتمع فيها النساء لصنع الحلويات، وأشهرها العصيدة.
ثم انتقل بنا للحديث عن سنة 1948، حين اشتد القصف على حيفا، فخرج وهو ابن عشر سنوات، حافي القدمين، يصعد التلال والجبال والهواء البارد يصفع وجهه. كانت الرحلة قاسية، خاصة عندما توفيت جدّة والدته أثناء السير المستمر، واضطروا لدفنها على الطريق.
تنقّلوا من حيفا إلى عكّا، ثم إلى بنت جبيل، ومنها بالقطارات إلى سورية. ورغم قساوة الرحلة، رفض أن يغادر دون أثر من بلده، فحمل معه كأسًا اشتراه له والده، مكتوب عليه بخط أحمر يشبه الدم كلمة "فلسطين".
وعند الحديث عن التعويض أو التوطين، تنهد الحاج وقال بصدق مؤلم:
"والله لو بعطوني كنوز الدنيا، متل فلسطين ما بلاقي."
وختم حديثه بالدعاء لأهل غزة، مشيدًا بصبرهم وثباتهم، ووصفهم بأنهم أهل الرباط الذين حافظوا على كرامتهم بتمسّكهم بدينهم وأرضهم.
