يتقاسمون في هذه الأيام أرضَ قَدّيتا: هواةُ الطبيعة يُريدونها لهم، بلا كهرباءٍ أو حضارةٍ، وآخرونَ يُريدونَ أرضَها كي يصنعوا نبيذاً جليليّاً أنيقاً، وآخرون يأتونَ مِن مُنطلقاتٍ صهيونيةٍ لا غيرَ. وقدّيتا، قرية جدّي المُهجرة في 1948، لا تفهم عَلامَ الخلاف؛ فمن موقعها في أعالي الجليل، مُطلّة على الجشّ ورميش ومارون الراس، ما زالت تحتفظ بآبار المياه أمام عتبات البيوت، وما زال عنّابها وتوتها مَضرباً للأمثال، ومَسرحاً لأحاديث العشق الخَجِلة.
في كلِّ ذكرى للنكبة تُلحُّ عليَّ قدّيتا. في السّنة الأخيرة، بدأتُ العمل على موقع ثقافي سياسي يحمل اسم «قدّيتا»، كي تحضُرَ قريتي في العالم الافتراضيّ الشّبكيّ، كتعويضٍ (مرحليٍّ؟) عن حضورها الجسديِّ الغائب، أو عن حضورنا الجسديِّ الغائب.
لم يكن جدّي مُتحدثاً عظيماً. كان يَرُونُ إلى صمتِهِ طيلة الوقت، جالساً على الشرفة المُطلة على قرية لجوئنا، الجشّ، وينظر نحو الأفق بلا كلل. لم يُجلِسْني يوماً على ركبتيْه وأنا صغير ليحكي لي عن قدّيتا التي تركَها وبعضَ أبنائه وقتها، ليرحلوا إلى عَكْبَرَة، المُهجَّرة بدورها. أهلي المُهجّرون لجأوا إلى قرية هُجِّرت قبل قريتهم بأيام، ليسكنُوا بيوتَ أهلها المَقتولين أو الهاربين. هل هذا أفضل من أن يسكُنُها يهود؟ هل يُخفّف هذا من حدَّة الألم، أم يَزيدُهُ لأنّ «ظلمَ ذوي القرابةِ أشدُّ إيلامًا؟».
كنتُ أعرفُ أننا لسنا من الجشّ، وأنّ قدّيتا موجودة في مكان ما. كان الصّغار من عائلتي (الكبيرةِ المَديدةِ، الحاضرةِ في سورية ولبنان والأردن) يقضون أماسيّهم الصيفيّة في قدّيتا، يقطفون التوت والعنب والتين، ويَحكُونَ عن «فَرْكَش»، ذاك اليهوديّ القاسي القلب الذي جاء واستوطن في الأرض الحُرجيّة المجروحة. صار «فَركش» لنا كابوساً مرعباً، رغم أنني لم ألتِقِه إلا مرة واحدة. مرَّ من أمامِنا ونحن نلعب البنانيرَ، وأشار أحدهم بخوف إليه، قائلاً:«فَركش.. فَركش»! اختبأنا فوراً. كان شعرُهُ طويلاً جداً، أشعثَ، ملابسُه رثة ويتكئ على عكّاز خشبيٍّ طويل، يتبعُه كلب كبير هرم لا يبشّر بحسن نيّةٍ تُذكر. بعدما مرَّ، قال أحدُهُم إنه يضربُ الأطفالَ العرب الذين يذهبون إلى قدّيتا، لأنه يخاف أن يُتلفوا الطبيعة من حوله. سألتُ بما لم أكن أعيه وقتها بما يكفي: «ليش إحنا مِنخرّب الطبيعة؟»…
■ ■ ■
أنا من فئة «النازحين»، أي الذين هُجِّروا من قراهم في النكبة، ولكنهم ظلّوا في نطاق الدولة التي قامت، فيما ينحصر لقب «المُهجّرين» بأولئك الذين غادروا الوطن، فبقوْا خارج الحدود. لطالما فكّرتُ، ونحن نصرخ بحقِّ العودة، نكتب عن حقِّ العودة، نقسم بحقِّ العودة، فيما إذا كنا ــــ النازحين ــــ جزءاً من هذا الحقّ أم لا؟ هل سنعود يوماً، أم أنّ العودة ستنحصر في اللاجئين، ضمن اتفاق سياسيّ عمليّ، يُعيد الجيل الأول المُهجَّر إلى قرى الضفة الغربية، كي يموتوا بسلام؟ وهل مات جدّي بسلام حين دفنّاه في تراب الجشّ؟ ولماذا لم يُوصِنا بدفنه في تراب قدّيتا؟ هل كان يخاف «فركش» مثلنا؟
أتطلّع إلى عُمري، ابن النصف سنة، ابن أخي، وأبتسم له. لاجئٌ ابن لاجئ. عفواً: نازحٌ ابن نازح. أمه نازحة أيضاً، من البروة. إلى أيِّ عالم قدمتَ يا عمري، والمعاني كلها فُقدتْ، والأسئلة كلها نفدتْ؟ هل ستعني لك الذكرى الثمانون للنكبة شيئاً؟ أحملكَ وأدورُ بكَ في جنبات الشرفة الكبيرة في بيت جدِّكَ. قدّيتا على مَبعدِ عشر دقائق ولكنها بعيدة أكثرَ من أيِّ حلٍّ في الأفق. أُرقّصكَ على ذراعيَّ قليلاً، فتشعرُ بالغبطةِ. أيةُ أغانٍ يُغنّون للجِّيل الرابع للنكبة في ذكراها الستين؟ لماذا لم يقولوا لنا في مناشير الدعوة للمَسيرات والاحتجاجات أيةَ أغانٍ علينا أن نُغنّي للجيل الرابع للنّازحين، ونحن نُرقّصهم على شرفات ريفية جليلية تُطلُّ على ما بقي من ذاكرةِ جُذورهم؟
■ ■ ■
لا أشعر بما يُفترَض أن أشعر به في الذكرى السِّتين للنكبة. أستيقظُ كالمعتاد، أنامُ كالمعتاد، أقرأ قراءاتي كالمعتاد. أتابع تعبَنا الفلسطينيَّ الذي أريق بين الضفة وغزة على شاشات جُثثنا، وأبحث عن بُقع الخزي والعار التي على بلوزتي. هذه بقعة من غزة، وتلك من رام الله، وهذه من القصبة في نابلس. أسرع في لهاثي بين الغرفة والصالة كي لا أفوّت بداية النشرة الإخبارية على «الجزيرة». أريد أن أعرف كم قتيلاً وقع اليوم في غزة. ولكنّ «الجزيرة» تبدأ بقتلى بيروت. هل يصحّ يا بيروت؟ أن تسرقي الخبر الأول منا في الذكرى الستين للنكبة؟ أين التضامنُ يا بيروتَ؟؟
لستُ سعيداً بأنني فلسطيني. هل يمكن أن أقول هذا من دون أن تنهال البيانات على رأس هذا المتساقط المتخاذل الانبطاحيِّ؟ ولكنني لست حزيناً كذلك. أعتقد أنني لامُبالٍ، في هذه الأيام. أي إنني بيْنَ بيْن. لا «أتشاءَل» ولا «أتفاءَمُ». هكذا، عادي. عاديٌ جداً. أنا فلسطيني من دون شعور خاص، في الذكرى الستين لنكبتي. أبحث عن مواطن الألم في جسدي فلا أجدها، أبحث عن مواطن الغضب فلا أجدها، ولا أجد في جسدي مواطنَ للفخر أو للعار أو للأمل أو للتشاؤم أو للحبّ أو للكراهية أو للحنين أو للبلادة. لا أجدُ شيئاً.
أتأمّلُ تصميم موقع «قديتا. نت» الذي لم يُنشر على الويب بعد، وأبتسم. هنا قديتا. من قلب عكا الساعية إلى صيف مُلتهب. هنا قديتا. لا أسمع أحداً في الذكرى الستين لنكبتي، فهل تسمعونني؟