لقد ساهم الموقع الاستراتيجي لقرية بيت جبرين في إكسابها مكانة وأهمية لدى مختلف الأقوام والجماعات التي استوطنت في هذه المنطقة على مدار التاريخ، فمجموعة التلال المحيطة بالقرية التي تحول دون انكشافها على المهاجمين جعل منها موقعا حصينا، كما أن خصوبة أراضيها وكثرة مياهها بالإضافة إلى وقوعها على مفترق من خطوط المواصلات التي تربط شمال فلسطين بجنوبها وشرقها بغربها قد منحها أهمية اقتصادية وإدارية، هذا بالإضافة إلى أهميتها العسكرية والإستراتيجية.فعند قراءتنا لتاريخ القرية يتبين لنا بأن جغرافيتها قد لعبت دورا أساسيا في عظم شأنها وعلو مكانتها لدى مختلف الأقوام الذين مرّوا بها منذ أن وطِئتها أقدام الكنعانيين قبل آلاف السنين وحتى الوقت الحاضر. ويدرك أهالي القرية الأهمية التي تميزت بها قريتهم، وفي هذا السياق يروي السيد أحمد خليل النجار(73 سنة) قائلا:
بيت جبرين بتقع بين السهل وبين الجبل نص أراضيها جبلية ونص أراضيها سهلية في أراضي زراعية وفي أراضي للرعي، بيت جبرين كان يتبع إلها حوالي 14 قرية، كان فيها مركز بوليس وكان في حاكم صلح يجي في الأسبوع مرة وعيادة وكان فيها مدارس مدرسة للبنات ومدرسة للأولاد وبعدين في آخر مدة صار فيها سوق يجووا يوم الخميس يجووا عالسوق، وبيت جبرين بتتمايز عن كل البلاد هذيك على أساس إنها كانت مركز.
وقد أقيمت القرية على مساحة من الأرض المستوية التي تحيط بها مجموعة من التلال وهي تقع تحديدا في نهاية السفوح الغربية لجبال الخليل، وفي هذا السياق فقد تباينت المصادر بعض الشيء في تحديد المسافة الفاصلة بينها وبين مدينة الخليل، فقد أورد الدباغ في موسوعته "بلادنا فلسطين" بأنها ]بيت جبرين[ تبعد مسافة 26 كيلومتراً عن الخليل باتجاه الشمال الغربي(الدباغ، 1991 :297 ). وهي المسافة نفسها التي ورد ذكرها في الموسوعة الفلسطينية(الموسوعة الفلسطينية، بدون:445 ). بينما يذكر وليد الخالدي بأنها تبعد عن الخليل مسافة 21 كيلومتراً فقط (الخالدي، 1997 :149).
وتفيد المصادر بأن القرية ترتفع عن سطح البحر حوالي 287 م (الدباغ، 1991: 297 ). " و تقع على تقاطع خط الطول 45ً، 53َ، 34ْ مع خط العرض 27ً، 36َ، 31ْ، والتي تتمثل حسب إحداثيات خارطة فلسطين بالخط 113 شمالا والخط 140 شرقا " (عرار، 1995 :27 ).
وأما القرى التي تلتقي حدود أراضيها مع حدود أراضي القرية فهي قرى دير نخاس، وذكرين، وعجور، وبركوسيا، وكُدنة، وزيتا، وعراق المنشية، والقبيبة والدوايمة، وتلك القرى حصل لها ما حصل لبيت جبرين من احتلال وتدمير عام 1948. وهناك بعض القرى الأخرى التي لم يتم احتلالها عام 48 مثل بيت أولا، وإذنا، وترقوميا.
بيت جبرين:اللفظ والتسمية:
هناك من يرجع الاسم إلى اللغة الآرامية ومعناه بيت الأقوياء الجبابرة، وكلمة جبرا باللغة الآرامية معناها القوة والشدة، ومما يؤكد قدم هذه التسمية أنه عندما هدمها الفرس سنة 38 قبل الميلاد أعيد بناؤها باسم "بيت جبرا " (الدباغ، 1991: 298 ).وعندما غزاها الصليبيون وأقاموا فيها قلعة سنة 1137م أطلقوا عليها اسم بِثْ غِبْلين (Beth Giblin ) (الخالدي، 1997 :150 )، وفي الذاكرة الجماعية لأهالي القرية هناك ما يشير إلى أصل التسمية ومعناها، ويبدو ذلك واضحا في رواية الحاج طلب غطاشة(54 سنة) بقوله:
أما تسمية بيت جبرين في أصلها هي بيت الجبارين طبعا سكانها الأصليين من العمالقة والعمالقة جزء من الكنعانيين والعمالقة أصلا سكنوا على الساحل الفلسطيني جنوب غرب فلسطين منطقة عسقلان كما ورد في قول الله سبحانه وتعالى فهي بيت الجبارين ومن ثم حرفت حتى أصبحت بيت جبرين بالنون وليس باللام وما في رأي آخر، أما سكانها الأصليين هم العماليق وكلما تعمقت في التاريخ كانت شهرتها كبيرة جدا.
أخيرا، وعلى الرغم من تعدد الأقوام والجماعات التي سكنت القرية منذ فجر تاريخها وعلى اختلاف أصولهم ولغاتهم فقد بقي اسم " بيت جبرين" مع بعض التغييرات الطفيفة التي كانت تحدث أحيانا على حركة بعض الحروف دون المساس بالمعنى هو الاسم الذي ساد في معظم المراحل التاريخية التي مرت بها القرية، وإذا سميت بغير هذا الاسم فكان ذلك لفترة زمنية محدودة وسرعان ما كانت تستعيد اسمها الذي أطلق عليها نسبة لسكانها الأصليين.
المساحة والسكان:
تظهر الأرقام والبيانات بأن مساحة أراضي بيت جبرين كبيرة جدا إذا ما قرنت بالقرى المحيطة بها، فقد بلغت مساحة الأراضي التابعة للقرية عام 1945 (بالدونمات) 56185 دونما منها 1008 كانت قد سربت لليهود والباقي ظل يمتلكه السكان العرب حتى تم تهجيرهم عام 1948 (الخالدي، 1997 :149 )، وهو الرقم الذي ورد في السجل الرسمي البريطاني لسنة 1945 والذي يشير أيضا إلى الكيفية التي استثمرت بها هذه الأراضي ، حيث زرع بالحبوب ما مساحته 30801 دونما من الأراضي التابعة للسكان العرب و815 دونما من الأراضي التابعة لليهود، بينما لم يزرع سوى 2477 دونما بالأشجار المثمرة والباقي غير مزروعة ويستثنى منه مسطح القرية الذي بلغت مساحته 287 دونما(الموسوعة الفلسطينية،بدون سنة:195 ) ،بينما يذكر الدباغ بأن مساحة الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون فقط، بلغت 3500 دونم وهي القرية الأولى في قضاء الخليل زرعا له(الدباغ،1991 :301 ).
وأما فيما يتعلق بعدد السكان فان أقدم إحصائية متوفرة تم العثور عليها كانت سنة 1596 حيث قدر عددهم في ذلك الوقت حسب الدفاتر العثمانية بحوالي 250 نسمة(Abdulfattah & Hutteroth, 1977:149).وفي 1912 كان عددهم 1000نسمة وفي 1922 بلغ 1420نسمة (الدباغ، 1991:301) أما في عام 1931 فقد بلغ عددهم 1804 نسمة، بينما وصل عددهم في عام 1944/1945 حوالي 2430 نسمة(الخالدي، 1997 :149 ).ويذكر بعض اللاجئين أن عددهم كان حوالي 2500 نسمة عندما هجروا من قريتهم سنة 1948.
. بيت جبرين على مر العصور:
كما أسلفنا في الحديث عن موقع القرية فإن بيت جبرين قد كانت محط أنظار كثير من الأقوام والجماعات الإنسانية التي استوطنت في فلسطين منذ فجر التاريخ، وتشير الآثار الظاهرة للعيان كذلك الاكتشافات الأثرية الحديثة بأن القرية قديمة وجذورها ضاربة في عمق التاريخ، وتتفق المصادر التاريخية في أنها تعود بتاريخها إلى جبابرة العمالقة وهم القبائل العربية الكنعانية الذين جاؤوا من الجزيرة العربية ليستقروا في فلسطين.
وقد برزت وتطورت بيت جبرين كمدينة كنعانية حصينة تحمي مداخل المنطقة الجبلية من الجنوب في حوالي سنة 2000 قبل الميلاد، واستمرت تلعب هذا الدور إلى أن تم تدميرها على يد نبوخذنصّر البابلي عندما غزا فلسطين في سنة 586 قبل الميلاد(عرار، 1995 :44). " ولما حل الآدوميون في جنوبي فلسطين في نحو عام 500 قبل الميلاد كانت بيت جبرين قلعة من قلاعهم" (الدباغ، 1991 :298 ). ومن ثم خضعت بيت جبرين للاحتلال الروماني عندما احتل الرومان منطقة بلاد الشام عام 64 قبل الميلاد،
وعن فترة الاحتلال الروماني ذكر وليد الخالدي:
" في سنة 200م منح الإمبراطور الروماني سبتيميوس سفيروسSeptimius Sverus) ) القرية صفة مستعمرة رومانية وأطلق عليها اسم الوثيروبوليس Eleutheropolis) )، بمعنى مدينة الأحرار، وضم إليها رقعة من الأرض كانت من أكبر ما منح لقرية في فلسطين في ذلك الزمن"(الخالدي، 1997:150).
وفي عام 40 قبل الميلاد تم تدميرها على يد الفرس الذين احتلوا فلسطين سنة 38 قبل الميلاد، غير أن بعض المصادر تشير إلى أن عملية الهدم قد طالت مدينة مريسة في تلك السنة وليس بيت جبرين وهي تقع بالقرب منها وأن هدم مريسة قد أعاد لبيت جبرين مكانتها. (The New Encyclopaedia Excavations Archacoligical؟., 1993: 948 ).
وقد ظلت بيت جبرين تحت السيطرة الرومانية إلى أن فتحها العرب المسلمون سنة 634 م إثر هزيمتهم للرومان في معركة أجنادين بقيادة عمرو بن العاص التي يرجح بأنها وقعت بالقرب من بيت جبرين، وذلك في عهد الخليفة الراشدي أبي بكر الصديق، وتشكل معركة أجنادين التي على إثرها تم تحرير بيت جبرين من قبضة الرومان وعودتها للعرب في ذلك الوقت محطة من المحطات البارزة في الذاكرة الجماعية لأهل القرية، فهناك الكثير ممن جرت مقابلتهم كان يذكر هذه الواقعة في روايته، وحول هذا الموضوع تحدث السيد محمد محمود العزة(65 سنة) قائلاً:
بيت جبرين كانت بحكم موقعها كانت عرضة للغزوات وكان بقربها معركة اجنادين أو فيها، وفيها أربعة عشر صحابي مدفونين في منطقة بيت جبرين استشهدوا في معركة اجنادين.
ويضيف الحاج محمود احمد أبو ربيع(73 سنة) قائلاً:
بيت جبرين أرضها مجبولة بدم الشهدا، بدم الصحابة اللي استشهدوا في اجنادين، ارض كل متر فيها عليه قبر شهيد، هذي ارض الرباط ما بتنباع.
وتقول السيدة حكمت عبد المجيد الحموز(45 سنة) نقلا عن رواية جدتها لها:
الله يرحمها جدتي بقت تقول والله مش لازم بيت جبرين المشي فيها بالحذاء لأنها كانت مجبولة بدم الصحابة جبل بقولوا إنها محتمل تكون معركة اجنادين فيها.
وقد استمرت بيت جبرين تحت سيطرة العرب إلى أن غزاها الصليبيون واحتلوها في القرن الثاني عشر للميلاد وأقاموا فيها قلعة حصينة وأطلقوا عليها اسم بِثْ غِبْلين(Beth Giblin) حيث دمرها بعد ذلك صلاح الدين الأيوبي، ثم عاد الصليبيون واحتلوها ولم تنته السيطرة الصليبية على القرية بشكل نهائي إلا عندما احتلها الظاهر بيبرس سنة 1244 م (الدباغ، 1991 :300 )،(الخالدي،1997 :150 ).
وفي عام 1516 م عندما سيطر العثمانيون على بلاد العرب خضعت بيت جبرين للسلطة العثمانية كما هو الحال على أجزاء فلسطين الأخرى، وفي ذلك الوقت كانت عبارة عن قرية من أعمال غزة ولا يتجاوز عدد سكانها ال 275 نسمة، وفي أواخر عهد العثمانيين أصبحت من أعمال الخليل ثم استعادت حيويتها في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين لتصبح مرفقا خدماتيا وإداريا لبعض القرى المحيطة بها (الدباغ، 1991:300 )، (الخالدي، 1997 :150 ). وظلت بيت جبرين قرية عربية خالصة تنبض بالحياة إلى أن تم احتلالها وتدميرها واقتلاع أهلها منها عام 1948 ليصبح أهلها عبارة عن لاجئين لا يملكون سوى ذاكرتهم عن القرية وحلمهم بالعودة إليها، وقد أقام الإسرائيليون بالقرب من القرية وعلى أراضيها مستوطنة أطلقوا عليها اسم بيت غوفرين (Beit Guvrin).
الحياة الاقتصادية في بيت جبرين قبل النكبة كما تبدو في الذاكرة الجماعية:
كما أشير إليه في بداية هذا الفصل بأن الاعتماد على المصادر والمراجع كان فقط لطرح بعض المعلومات التاريخية والجغرافية المتعلقة بالقرية التي تم الحديث عنها في الصفحات السابقة، أما فيما يتعلق بهذا الموضوع والمواضيع اللاحقة سواء في هذا الفصل أو في الفصليْن القادِميْن فسوف تكون الذاكرة الجماعية التي استطعنا توثيقها من خلال المقابلات التي أجريت مع اللاجئين هي المصدر الأساس لنا وذلك انسجاما مع الخط العام للدراسة والهدف الذي قامت من أجله.
إن الحديث عن الحياة الاقتصادية في بيت جبرين أو في أي قرية فلسطينية أخرى قبل أكثر من نصف قرن من الزمان لا بد أن يأخذ بالاعتبار الأساس الذي يقوم عليه الاقتصاد الريفي في فلسطين ومحددات ذلك الاقتصاد والعلاقات المنبثقة عنه، هذا عندما يكون البحث في الموضوع بحثا كلاسيكيا يتناول المصادر كافة التي تفيد الباحث في عملية البحث، ولكن عندما يكون المصدر هو ما استوعبته الذاكرة الجمعية للناس حول هذا الموضوع فإن الأمر هنا سوف يختلف، فكما أسلفنا في أماكن عدة من الدراسة بأن الذاكرة هي إنتقائية بطبيعتها، فمثلا لا تأخذ بالحسبان المحاور كافة خاصة المرتبطة بالحياة الاقتصادية في تلك الفترة وإنما تأخذ فقط ما يستهويها ويتوافق مع طبيعتها، بالتالي فإن طرح هذا الموضوع والمواضيع الأخرى في هذا الفصل والفصول اللاحقة سوف يكون على هذا الأساس، لذلك فلا غرابة ألا يتم التطرق إلى بعض المحاور والنقاط التي ربما يجدها القارئ في بحث آخر يعتمد على مصادر أخرى غير المصدر الذي تعتمد عليه هذه الدراسة.وقد أشارت مجموع المقابلات مع اللاجئين إلى أن ذاكرتهم كان جلّ تركيزها على الكيفية التي كان الناس من خلالها يحصلون على لقمة عيشهم والمحاصيل التي كانوا يزرعونها ومشاركة المرأة للرجل سواء في العمل الزراعي في الأرض أو في تربية المواشي وتصنيع منتجاتها من الحليب وغيره ، كما لوحظ بأن الذاكرة قد اختزلت شيئا له علاقة بملكية الأرض وتفاوتها بين العائلات ،وأخيرا فقد كانت هناك بعض الإشارات لوجود بعض الأعمال التجارية والحرفية البسيطة في القرية بالتالي فسوف يجري هنا تناول جميع هذه المحاور كل منها على حدا.
تيسير عمرو
taysir_am@hotmail.com