تُجري سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بوتيرة متسارعة، تغييرات جوهرية على معالم البلدة القديمة من القدس المحتلة، خصوصاً في منطقة باب الخليل وميدانها الرئيس المعروف بساحة عمر بن الخطاب، والذي يشكل واحداً من أهم المراكز السياحية في المدينة. وتوجد هناك مجموعة من الفنادق وعدد كبير من المتاجر السياحية التي كانت حتى وقت قريب تستقبل أفواجاً كبيرة من السياح الأجانب.
لكن ما يحدث في هذه المرحلة، ومنذ أشهر، والمتمثل بقيام جرافات تابعة لسلطة الآثار الإسرائيلية وبلدية الاحتلال في القدس بأعمال تجريف هناك، يحمل في طياته الكثير من المخاطر على السياحة المقدسية التي تعاني من ركود كبير منذ بدء جائحة كورونا وإلى الآن.
سوق ومبنى استيطاني لاستقطاب الحركة التجارية والسياسية
تتركز أعمال التجريف أسفل الجدار الغربي لقلعة القدس التاريخية، حيث مسجد النبي داود، تمهيداً لبناء سوق ومجمع تجاري سياحي في باطن الأرض لاستقطاب الحركة التجارية والسياحية الوافدة، وتحويل الدخول إلى البلدة القديمة من القدس عبر باب الخليل بعد ربطه بشارع يافا والتجمعات اليهودية في القطاع الغربي المحتل من مدينة القدس.
تغيير معالم منطقة باب الخليل
في هذا الإطار، يقول خبير الخرائط والاستيطان خليل تفكجي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "ما يجري في منطقة باب الخليل يأتي في سياق مشروع أشمل".
ويضيف أن هذا المشروع "يستهدف تغيير معالم المنطقة هناك، خصوصاً ميدان عمر بن الخطاب المفضي إلى البلدة القديمة من القدس، وتحديداً حي الأرمن، وحارة الشرف أو ما تعرف الآن بالحي اليهودي، حيث تتركز الكثافة الاستيطانية داخل البلدة القديمة في هذا الحي الذي يقطنه نحو 3000 مستوطن، عدا عن مئات طلاب المدارس الدينية الموزعين على عشرات العقارات التي تم الاستيلاء عليها من مقدسيين".
ويتابع تفكجي "نحن نتحدث عن مشروع سياحي ضخم سيقام في المنطقة، بعدما أنهت لجان التخطيط التابعة لبلدية الاحتلال عملها ووضعت الخرائط والأمور اللوجستية، وبدأت بتهيئة المكان ووضع المعدات والجرافات لأجل تنفيذ هذا المشروع خلال عام 2022".
انتكاس الحركة التجارية في باب الخليل
ويتضمن المشروع الاستيطاني إقامة ساحات وأسواق ومجمعات تجارية وسياحية، ومتحف تحت الأرض، لوصول السياح الأجانب واليهود إلى باب الخليل من خلال عدة ساحات قريبة واستراحات للسياح، فيما رصدت حكومة الاحتلال ميزانية بقيمة 40 مليون شيكل (نحو 13 مليون دولار)، لتنفيذ أكبر عملية تغيير معالم في المنطقة.
لذا، لا يخفي المقدسيون قلقهم مما يجري في منطقة باب الخليل، ويخشون من أن يؤدي هذا المشروع الإسرائيلي إلى انتكاسة إضافية للحركة التجارية والسياحية في البلدة القديمة من القدس.
وتعاني هذه الحركة من ركود تجاري شبه تام ازداد تدهوراً مع جائحة كورونا، ودفع العديد من التجار المقدسيين إلى إغلاق محلاتهم بحثاً عن مصادر رزق لعائلاتهم، كما يؤكد لـ"العربي الجديد" وليد الدجاني، مدير فندق "الإمبريال" في باب الخليل، والذي تخوض عائلته منذ نحو عقدين صراعاً قضائياً مع جمعيات استيطانية تدعي ملكيتها الفندق المملوك أصلاً لبطريركية الروم الأرثوذكس.
ويحذر الدجاني من التداعيات الديموغرافية لما يجري في المنطقة، خاصة على الوجود المسيحي الفلسطيني في البلدة القديمة من القدس، والذي لا يتجاوز حالياً 1 في المائة فقط من مجموع سكان القدس القديمة البالغ عددهم نحو أربعين ألف نسمة.
وكانت تقديرات سابقة قد أشارت إلى ارتفاع نسبة المحال التجارية التي أغلقها المقدسيون جراء جائحة كورونا ونتيجة الضرائب المفروضة عليهم، إلى نحو 5 في المائة، ليصل عددها إلى ما يقارب 350 محلاً اضطر أصحابها إلى إغلاقها على مدى سنوات الاحتلال والتحول إلى أماكن عمل بديلة، وفق ما يؤكده لـ"العربي الجديد" رئيس لجنة التجار المقدسيين وأمين سر الغرفة التجارية السابق حجازي الرشق.
تحويل القدس "قبلة اليهود"
ما يجري من توجه احتلالي حالي لتغيير معالم باب الخليل في القدس القديمة، يرى فيه طوني خشرم، رئيس "جمعية السياحة الوافدة في الأراضي المقدسة"، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه يقوم على "جعل القدس مكة اليهود عالمياً، أي للحجاج اليهود فقط".
ويوضح أنه "يحكم اليهود الأرثوذكس والمتدينون المتشددون القدس بالمال والسياسة، وهم الذين يستثمرون أموالاً كثيرة في المواقع الدينية اليهودية في البلدة القديمة، بينما الأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية هي بمثابة مواقع أثرية غير مهمة لليهود".
ويضيف خشرم "باب الخليل هو الأسهل لدخول اليهود من القدس الغربية إلى حائط البراق مشياً على الأقدام أو بالسيارات، ومستقبلاً بوسائل نقل أخرى".
وفي ما يتعلق بمستقبل الحركة التجارية في البلدة القديمة على ضوء تنفيذ هذا المشروع، يقول خشرم إنه "بالنسبة للحركة التجارية في البلدة القديمة ستبقى ضعيفة جداً، لأن اعتمادها هو على السياحة المسيحية والإسلامية وهي لا تعتمد على السياحة اليهودية".
ما يجري في منطقة باب الخليل يرتبط أصلاً، بحسب مدير "مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية" زياد الحموري، "بمشروع التهويد الأكبر للمدينة المقدسة، بدءاً مما يعرف بمنطقة الحوض المقدس في نطاق البلدة القديمة خارج سورها التاريخي، حيث هناك سلسلة من المشاريع الجاري تنفيذها منذ سنوات، خاصة عند مدخل بلدة سلوان".
ويضيف "كما تُقام هناك مبان ومنشآت لمركز سياحي إسرائيلي ضخم تشرف عليه جمعية العاد الاستيطانية من مقرها في وادي حلوة، وما يتصل بذلك من شبكة أنفاق تخترق باطن الأرض في سلوان ومحيط المسجد الأقصى وأسفله".
ويتابع "كما أن هناك مشاريع في منطقة ساحة البراق، حيث تصعد من باطن الأرض منشآت ومبان تضم مراكز سياحية وكنساً، بالإضافة إلى تكثيف الاستيطان في عشرات العقارات التي استولى عليها مستوطنون في السنوات الماضية في سلوان والبلدة القديمة وجبل الزيتون والشيخ جراح".
ويرى الحموري أن كل هذه المشاريع "تؤدي في النهاية إلى تحقيق هدف الاحتلال في طمس معالم المدينة المقدسة؛ سواء داخل منطقة السور أو خارجها".
ويشير إلى أن ذلك "يترافق مع ضغوط هائلة يتعرّض لها تجار البلدة القديمة، من خلال الجائحة الضريبية التي تستهدفهم منذ عقود، والتي أدت إلى إغلاق عدد كبير من المحال التجارية وصل حتى الآن إلى نحو 350 محلاً، تحوّل أصحابها للعمل كأجراء في أماكن العمل الإسرائيلية، أو انتقلوا للعمل في مناطق الضفة الغربية تجنباً لحملات الضريبة التي تستهدفهم".
تأتي هذه الضغوط في ظل غياب أي خطة إنعاش اقتصادية فلسطينية لمساعدة التجار المقدسيين في البلدة القديمة، الذين يتهمون السلطة الفلسطينية بتهميشهم وعدم الالتفات إلى أوضاعهم، ويقولون إن الكثير مما يُعلن عنه في إطار دعم تقدمه السلطة للتجار، لا أثر له على أرض الواقع.
سرقة السياحة في القدس
في باب السلسلة في بلدة القدس القديمة، حيث عشرات المحلات السياحية والمطاعم، يُظهر واقع التجار حالة الركود، والتي تتجلى من خلال جلوس أصحاب هذه المحلات والمطاعم أمامها يقضون وقتهم في ممارسة لعبة الشطرنج وغيرها.
يأتي ذلك بينما تمر من أمام هؤلاء التجار أفواج السيّاح، المتجهة إلى سوق "كاردو" الإسرائيلي في حارة الشرف، الذي أقيم بعيد احتلال القدس عام 1967، أو إلى حائط البراق حيث يتحكم الاحتلال في حركة الدخول إلى المنطقة وجباية الرسوم من السياح الذين تتضمن جولاتهم هناك الوصول أيضاً إلى باحات المسجد الأقصى.
ووسط هذه الأجواء، وجد المواطن المقدسي عماد أبو خديجة، صاحب محل خان أبو خديجة الأثري القديم، نفسه أمام مبادرة ذاتية لتشجيع السياحة الداخلية إلى خانه، من خلال دعوة فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، والمقدسيين لاحتساء الشاي مجاناً في الخان، بهدف تنشيط حركة المواطنين في حي السلسلة.
وقد أصيب هذا الحي في السنوات الثلاث الأخيرة بانتكاسة بفعل ممارسات الاحتلال الأمنية، وتعرضه للوافدين إلى الحي بالتفتيش والتدقيق في بطاقات هوياتهم.
وعلى الرغم من ذلك، لم تكن الاستجابة لهذه المبادرة كبيرة، على الرغم من أن أبو خديجة كررها أكثر من مرة، ودعا المقدسيين إلى زيارته في الخان. وبحسب قوله لـ"العربي الجديد"، فإن "الدعوة مفتوحة، وآمل أن تجد صداها، وأن تلقى التجاوب المطلوب".
المصدر: العربي الجديد