أصل التسمية
فرعم قريتنا قرية زراعية في قضاء صفد، جميلة وادعة. من اسمها تعرف هويتها، ففرعم أو (برعم الكنعانية) تعني الكثيرة الشجر أو الكثيرة الثمر، تتربع على مرتفع يشرف على عدة قرى تتجاور معها (الجاعونة والقباعة والمغار والجش وعين الزيتون وبيريا وجب يوسف)، وتبعد عن مدينة صفد سبعة عشر كيلومتراً.
أحاط بها المستوطن الصهيوني من جميع الجهات من خلال بناء (مستعمرة روشبينا ومطارها العسكري، ومستعمرة نجمة الصبح ومستعمرة عين العجلة، ومستعمرة بيريا المقامة على أراضي بيريا العربية). وقد اختير لهذه المستعمرات مواقع استراتيجية، حيث تقع على مفترق الطرق الرئيسية للقرى تلك، وذلك لكي يعرقل المستوطين عمل الفلاحين في قراهم، ويراقب تحركاتهم وتنقلاتهم، ويتيح له وللمستعمر البريطاني تفتيش الداخل والخارج من هذه القرى، وذلك عبر نقاط تفتيش متعددة أقيمت لهذا الغرض.
ومع وجود هذه المستعمرات على الأراضي المجاورة للقرية بدأت التحرشات الصهيونية وعصاباتها بأبناء قريتنا، الذين بدأوا يعدون العدة ويبادرون في التصدي لهذه القطعان الغريبة التي جاءت من أقاصي الدنيا لتستولي على أراضيهم وخيراتهم.
نضال أهل القرية
بدأ النضال مبكراً، وقد تفانى رجالاتها في جهادهم الذي لم يقتصر على فرعم فحسب، بل تعداه إلى القرى المجاورة. فهذا المجاهد القائد محمود عثمان الكردي، قائد فصيل فرعم في ثورة القسام (1936)، يجوب قرى قضاء صفد، القرية تلو القرية يدرب ويعبئ، ينظم وينسق العمليات العسكرية مع القائدين عبد الله الشاعر (من صفد) وعبد الله الأصبح من (الجاعونة)، ويسجل معهما أنصع الصفحات في سجل مقارعة المستعمرين. ومن العمليات التي قام بها هذا القائد مع أبناء القرى المجاورة (كما حدثني والدي)، عملية الهجوم على الحي اليهودي في صفد، والهجوم على مستعمرة روشبينا المجاورة التي ألحقوا فيها بالعدو خسائر كبيرة أدت في صفد إلى إفراغ الحي لمدة من الزمن من هؤلاء المستوطنين.
ومثلما كان يقاتل أبناء القرية العصابات الصهيونية، كانوا يقاتلون على جبهة أخرى. فالإنكليز كانوا متواطئين معهم، وكانوا يعيثون فساداً في قريتنا وباقي القرى الفلسطينية الأخرى. وأذكر على هذا الصعيد عدة حوادث يذكرها أهل القرية ممن عاصروا تلك المرحلة، تبين تواطؤ هذا المحتل مع تلك العصابات وتكامل الدور معها:
الأولى: أنه في أحد الأيام حاصر الإنكليز القرية ودخلوها، وجمعوا الأهالي في الساحة الرئيسية، وفصلوا الرجال عن النساء، ثم أخذوا العديد من الشباب إلى السجون وذلك دون معرفة لأي ذنب اقترفوه.
الثانية: أن عليه شاباً من عائلة عودة ضرب ضابطاً إنكليزياً كان يهينه، فاجتمع الجنود الإنكليز وجردوه من ملابسه وسحلوه على أشجار الصبار المليئة بالأشواك، وعذبوه تعذيباً شديداً على مرأى أهل القرية. وأذكر أن تلك الأشواك بقي بعضها في جسده حتى توفي في مخيم اليرموك قبل سنوات.
الثالثة: جرت مع رجل أيضاً من عائلة عودة، فبينما كان خارجاً من بيته ليقضي حاجة له في الليل، صادف وجود دورية للإنكليز تمر في القرية، ومن دون سابق إنذار أطلقوا النار عليه فأردوه قتيلاً وتركوه مضمخاً بدمائه من دون أن يرفّ لهم جفن.
وهنا حين أتحدث عن تلك الحوادث والانتهاكات للجيش البريطاني أود أن أقول شيئاً، أنه حين يتسنى لنا أن نرفع دعاوى على الصهاينة، على ما ارتكبوه بحق شعبنا من قتل ومجازر، يجب أن نرفع في الوقت نفسه دعاوى على الإنكليز ومحاكمتهم مثلهم، فالبريطانيون رأس البلاء في قضيتنا.
بدايات النكبة
مع بداية عام 1948 بدأت المعارك بيننا وبين اليهود الصهاينة، وبدأت تشتد في طبريا وحيفا وصفد وقراها، وبدأ الصهاينة يضيّقون على تلك القرى ويبثون الرعب في كل ناحية. ولكن رغم ذلك، ورغم ما سمعناه عن مجزرة دير ياسين والفظائع التي ارتكبت فيها، لم يفكر أحد من أهل قريتنا بالرحيل عنها، كانوا يقولون: «نموت بأرضنا ولا نخرج منها أبداً».
كان الصهاينة قد جهزوا لاحتلال قريتنا خطة ضمن عملية أطلقوا عليها اسم (يفتاح)، وكان يقود هذه العملية الصهيوني (إيغال ألون) قائد قوات (البالماخ) آنذاك، وكانت للعملية شيفرة تحمل عنوان (المكنسة)، وكانت تعني ضمن ما تعنيه كنس أهالي تلك القرى من قراهم وتفريغها بالكامل.
ولقرب قريتنا (فرعم) من مطار روشبينا العسكري، ولموقعها في منطقة مرتفعة، قامت العصابات الصهيونية بقصفها بقوة وبوحشية. وقد صادف هذا القصف للقرية وجود الطلاب في المدارس، ما حدا بالأهالي إلى الركض في الشوارع بحثاً عن أطفالهم وليجمعوا أنفسهم مع عائلاتهم، ويخرجوا من القرية، تحت وابل من القصف المركّز. بدا المشهد في هذه اللحظات العصيبة مأساوياً، وقد أصبحت الطريق تئنّ تحت الأقدام وتعزف موسيقى الموت ألحانها. (كان الناس ينظرون نظرة إلى الأمام، ونظرات إلى الخلف، وتجحظ عيونهم نحو القرية، والمشهد أذكره إلى الآن كانوا يودعونها توديع المسافر بلا عودة.) وظلوا كذلك حتى غابت معالم القرية عن أعينهم، حتى أصبحت لا ترى ولا تسمع إلا لهيب الدموع والوجع والألم والحسرات والتنهيدات الطويلة والعتابا الحزينة.
أذكر أن رجلاً من قريتنا اسمه (عيسى شعبان) وقف أمام الناس ووجه بارودته نحو أهالي القرية وهو يصرخ قائلاً: «ما حدا يغادر، ما حدا يترك البلد» وبالفعل اتفق مع الرجال على أن يخرجوا النساء والأطفال ويؤمنوا عليهم ويرجعوا إلى القرية.عاد الرجال، ولكنهم لم يصمدوا طويلاً، فلا العتاد كان كافياً ولا الصهاينة تركوهم يلملمون قوتهم. فاستشهد من استشهد وجرح من جرح. والذي وعوه خلال هذه المعركة أن حجم المؤامرة كان أكبر مما توقعوا، لذلك أخرجوا.
التغريبة
خرجنا من قريتنا فرعم التي لا يمكن أن أنساها ما حييت، وتوجهنا منها إلى قرية صلحا الحدودية مع لبنان، حيث أقمنا في خيمة كبيرة أعدها لنا وجهاء القرية. لكن مع سقوط مدينة صفد، انهارت معنويات الأهالي فتركوا القرية، وتوجهنا بعد ذلك إلى الحدود السورية واجتزناها لنحطّ في منطقة حوران السورية. أقمنا في حوران مدة عام كامل، انتقلنا بعدها إلى دمشق، وأقمنا في قرية (حزّة) في الغوطة الشرقية حتى بداية الستينيات من القرن الماضي، انتقلنا بعدها إلى مخيم اليرموك جنوب مدينة دمشق حيث وزعت علينا المؤسسة (الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين) أراضي قمنا بإعمارها. وحين ازداد عدد أفراد الأسرة وكبر الأولاد، انتقلت بهم إلى مخيم الحسينية، وكان ذلك في منتصف التسعينيات، وما زلنا نعيش فيه حتى الآن.
بعد هذه المعاناة الطويلة يأتي من يعد الخطط لتوطيننا أو ليدعونا للعودة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ضمن ما يسمونه الدولة الفلسطينية المعهودة. أقول لهؤلاء: «لا تتعبوا أنفسكم، إننا نحب كل قطعة من فلسطين الحبيبة». ولكن رغم ذلك هناك أرض أخرجنا منها قسراً عام 1948، ونريد العودة إليها وإليها حصراً وهذه الأرض بالنسبة إليّ هي فرعم لا غيرها. هي قريتي هي ماضيّ وهي حاضري وهي مستقبل أولادي وأحفادي. فوالله لا أبدل مسقط رأسي، وملاعب طفولتي، وبيتي، وشجرات أرضي ببقاع العالم كله. والله لا يُرجع فلسطين إلا السلاح والمقاومة، أما المفاوضات فقد وجدت لابتزازنا ومساومتنا على أرضنا لا لعودتنا.
المصدر: عبد الكريم عريشه هو مؤلف كتاب «قرية فرعم» - مجلة العودة العدد الواحد والأربعين شباط / 2011