جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
وجه سؤالاً لشاعر عربي يا هاشم شلولة: سأسأل قاسم حداد: كيف للجروح أن تكون بهذا الجمال؟
حوار: زياد خداش
في "الترو كولر" يظهر لي اسم: الغريب الغريب، فلا أرد غالباً، لا أخاف من كلمة الغريب بل من تكرارها، وحين يلح الغريب الغريب، أرد خائفاً فيأتيني صوت هاشم: أنا الغريب الغريب يا زياد. سألت عنه في أول الحرب أكثر من مرة، شيء ما كان يقلقني عليه، ربما مغامرته في الكتابة التي يمكن أن تعكس ذاتها في مغامرته في الحياة، ربما لغته المجنونة التي يمكن أن يعادلها تصرف غريب. أين هاشم يا أدهم العقاد؟ في غرفته في خان يونس، ماذا يفعل في غرفته؟ يكتب الشعر ولا ينظر من النافذة، ويسمع ضجيج الصواريخ في الخارج فيقنع نفسه: مجرد شغب أطفال مخيمات مبالغ فيه. يكتب هاشم نص اللا منطق، وكأنه يغيظ الحياة اللا منطقية حوله: حسناً أنا أيضاً أجيد اللا منطق، إليك لا منطق شعري أيتها الحياة. هذه دردشة مع حبيس الغرفة والغرابة وغزة الشاعر الشاب هاشم شلولة: - ماذا فعلت بك غزة يا هاشم؟ وإلى أين أخذتك؟ *لا أعرف بالضبط ماذا فعلت بي غزة يا زياد، لكنها علّمتني إعادةَ ترتيبِ التساقُط مع كل خريف جديد، لاسيما أنّها مدينةُ خريفٍ لا تتوقف صيحاته، وأورثتني صليباً أبدياً. أخذتني غزة حيث الإجابات مكتملة النقص والإيقاع، ونسيتني هناك؛ على الخط المستقيم الركيك، والفاصل بين لهب السؤال وظلال الإجابة. - حتى في زمن المجازر والجثث حولك تكتب وتكتب وتكتب... هل أنت مجنون كتابة؟ *مرة أخرى سأبدأ إجابتي بـ "لا" أعرف. لا أعرف بالضبط ما هو الجنون، وكيف يكون.. لكنّ الذي أعرفه أنَّ الخطر يجعل من الكتابة ضرورة تأخذ طابعاً قهرياً بالنسبة لي على الأقل، وكلّما اقتربتُ من الخطر زاد إلحاح الحدس عليّ.. كميكانيزم دفاعي في وجه الخوف واحتمالات الموت التي لا تتوقف عن التجدد. - أتخيلك تمشي في الشوارع المحطمة والمعتمة جائعاً عطشاً ووحيداً... تبحث عن مكان تعمل فيه الشبكة؛ لتكتب نصاً عن فكرة لا تستطيع ردها، هل يحدث هذا؟ *يحدث كثيراً يا صديقي، وخصوصاً أنّ أفكار الكتابة التي تزورني تكون نوعية، ولا يمكن تجاوزها.. لأنَّ الدمار والعتمةَ نوعيّان هذه المرّة من حيث استفزازهما للوجدان الإبداعي. - لو لم يحدث السابع من أكتوبر. أين من المفترض أن تكون الآن؟ وماذا تفعل؟ *أنا من الذين لا يريدون من الحياة شيئاً سوى الحياة بهدوء في مكتبتي؛ التي بمثابة خيمة الناطور، كان من المفترض أن أكون في الخيمة منتظراً، متأمّلاً الأشياء دون خلفية مفادها القصف والموت وكل ما أفعله هو تدوين هذه التأمُّلات في دفاتري العتيقة. - من هو الشاعر العربي الذي تحبه، وتتمنى لقاءه الآن، وعندك له أسئلة كثيرة..؟ وما هي الأسئلة؟ *كثيرون هم الشعراء الذين أحبّهم. لكنّ قاسم حدّاد أكثرهم، وأتمنّى لقاءه.. وعندي له سؤالان فحسب: كيف للجروح أن تكون بهذا الجمال؟ وكيف للقصيدة أن تكون بهذه الرزانة؟ - هل تحلم؟.. ما هو الحلم الذي يمكن أن يحلمَه الغزيّون بينما تتطاير الجثثُ في ليل الحلم؟ *بالنسبة لي، التجربة الوجودية بالعموم أفقدتني شهوة الحلم، لكنّي كواحد من أهل غزة؛ أحلم وإيّاهم أن نقنعَ البحرَ أن هذا الحزن يكفي. - ما أثمن شيء فقدته في هذه الحرب المجنونة يا هاشم؟ * دون تردد وببساطة.. فقدت روح التضامن مع المظلومين في العالم، وأعتقد أن هذا الفقد أقسى أنواع الفقد على شاعر يصرخ من وحشية العالم. - آخر مرة نظرت في المرآة، ماذا رأيت؟ هل رأيت هاشم؟ *رأيت وجهاً، لكنّي لم أستطع معرفة إذا كان ذلك هاشم أم شيئاً آخر غيره.. لأنّ ما أعرفه عن وجهي؛ هو أني نسيتُه في البيت، والبيت قد مات. - ما هو الكتاب الذي لا يفارق حقيبتك حتى في نزوحك المتكرر؟ *"عالم الأمس" كتاب مذكّرات ستيفان زفايغ. - قصة النزوح المتكرر من مكان لآخر، وعدم وجود مكان آمن للحياة، وجوع الأطفال حولك، واستشهاد الأهل والأصحاب، وبقاء جثث الشهداء تحت الركام لأشهُر... كيف يمكن أن تكون هذه الصور مادة للشعر أو السرد؟ *عندما تذوب هذه الصور في أذهاننا؛ لتشكّل المادة الإبداعية.. يصير صيدُنا الإبداعي أثمن، كلما زادت خساراتُنا وتعمّق المصاب، ومصابنا عميق وجلل يا صديقي. - لو خيرت بين أنواع الموت في غزة، ماذا تختار؟ أن تموت جثة تحت الركام أم قنصاً أم قصفاً أم جوعاً أم خوفاً أم خجلاً..؟ *سؤال ذو شَرَك، وإجابته فيه.. طرحته ووضعت إجابتَه، وهي: الموت خجلاً. دعني أفلت من هذا الشرك، وأُجِبْ: أنني أختار الموت قنصاً في الرأس، سأموت حينها بيُسر وسهولة وفي لمحة عين.. دون وجع الخجل الذي يقود إلى تأنيب لا أحتمله، أو ألم الجوع الذي يحطّ من قيمة أنفتي، أو الخوف الذي يفعل بي ما تفعله الرياح العاتية بقطعة قماش وسط صحراء ذات ظهيرة. - ما هي الوجبة الرهيبة التي أكلتها قبل الحرب بقليل، ولم تنسها؟ *لستُ من المغرمين بالطعام، وقبل الحرب لا يختلف عن بعدها.. حتى من حيث الكم والنوع، فقد كنت زاهداً جداً في الطعام لأسباب روحية. ولكن؛ قبل الحرب بأيام دعاني صديق لتناول طعام الغداء، كان الغداء ضأناً مشوياً، والحقيقة أنها كانت المرة الأولى في حياتي التي أتناول فيها الضأن، لم أكُن أحبّه لأسباب فنية.. ولكنه كان لذيذاً؛ لذا قررتُ تناوله مرّة أخرى.. جاءت الحرب، ولم أفعل. لكنّ طعمه ما زال حتى هذه اللحظة في فمي وذاكرتي.